: آخر تحديث

لعنة الجغرافية الكردية والطوف الحجري

97
100
98

اللغة كنايات وصور في كل مايكتب ويقال ، في الشعر كما في الفلسفة والأسطورة و ضروب التعبيرات الأنسانية  ادبية او علمية . بل ان الفيزياء والرياضيات كعلوم خالصة ، بحد ذاتها ، تلجأ للصور والكنايات لشرح قوانينها وليست نظرية الكموم النسبية لأنشتين ، بقوتها الذرية ،  الا نموذجا .

لعنات التاريخ او الجغرافية او الجيولوجيا او لعنة  الفراعنة  او لعنة الكونت مونت كريستو في رواية الكسندر دوما ، محض صور شعرية للتعبير عن الواقع .  لكنها مثل تعويذات  ، حين يؤمن بها ، فأنها تصير فاعلة وقاطعة اكثر من حد سيف دومكلس .في الآونة الأخيرة  قرأت مقالات، اخص من بينها  مقالات الكاتب شمة مال سليم ، وسمعت نقاشات  وتعليقات " مؤمنة " بلعنة" الجغرافية الكردية ، محملة اياها اكثر من طاقتها وفاعليتها . لكن اذا القينا نظرة ، ولو عاجلة  ،  الى وقائع التاريخ وتعليقات الأخباريين  وارتباطها بالجغرافية  :  اليست كل بلدان الدنيا مصابة بلعنة الجغرافية منذ زحزحة القارات التي يفترضها الجيولوجيون ويؤكدونها  بأدلة علمية  مقنعة ؟ كم بلد من بلدان اليوم ، بخرائطها السياسية المعاصرة  لم تصبه لعنة الجغرافية ؟ هل بلاد  الأكراد او " ستان الأكراد  ،  باللغة الفارسية " هو المكان الوحيد الذي صبت عليه آلهة الجغرافية والفصول الأغريقية  "غايا " حمم غضبها ؟ هل نجت المكسيك من لعنة جغرافيتها-  بحضاراتها  التي خربها الأسبان والتي  لو بقيت لأضافت الكثير لحضارة اليوم على حد تعبير الكاتب الفرنسي جان ماري لوكليزيو في " الحلم المكسيكي –ا ام جزيرة كريت ، وديعة التاريخ الجميلة للأغريق ومحطة استراحة آلهات القدر اليونانيات ، ام اندونيسيا ، بلد البراكين التي ابادت البشرية الأولى بسموم دخان براكينها  ، وفقا لبعض علماء الأنتروبولوجيا  ـ ام فرنسا ، بكرومها  ومراعيها  وحروبها الدينية بقول شكسبير ،  ام مدغسقر ، جنة افريقيا  الفقيرة الحال ،بلاد المذابح الأستعمارية  المنسية  ،  ام مصر  بأهراماتها وسؤال ابو الهول الأبدي وربطها افريقيا بآسيا  ،  ام بلاد الرافدين  مهد الأنسانية  بتعبير  س. م . كريمر ،   بجغرافيتها التي جعلتها  اخصب ارض تعبوية لصراع الحضارات ؟ وربما حتى اليوم . حتى تلك البلدان التي ريحها انعم من الحرير ، من ايطاليا الى  كوستريكا في امريكا الوسطى لم تنج من لعنة الجغرافية ، اذا اخذنا التاريخ كمعيار للجغرافية .

جاء الأكراد في فجر او مساء يوم ما  من التاريخ وسعدوا بمناظر الجبال والسهول بين فارس والأناضول وارض النهرين فسكنوها  وما زالوا  " لا نقاش . هذه هي الأسماء التاريخية "  بأختيارهم . ربما بعد ان جربوا ارض اخرى ، شأن كل الشعوب الباحثة عن الكلأ والسلام . جاؤوا  بلغتهم ولهجاتها التي خضبتها الهجرة بأيمان  و وثنية الشعوب التي مروا بها قبل استقرارهم الأخير على ذرى ما سيكون ، بعد زمن طويل كردستان .كتب الجواهري العراقي : طيف تحدر من وراء حجاب ، غض الترائب مثقل الأهداب . فكأن ساحرة ترقص حوله ، اعطاف اودية وهام روابي . لعبت به سود الليالي حقبة هي شر مالعبت يد الأحقاب .

جاءت قبلهم وبعدهم شعوبا وقبائل اخرى وسكنت في هذا المثلث الخصب ، الرعوي  ، الملون و المحمي بالطبيعة  - مازالت قبائل اليمن تحتمي بالجبال  ومازال هنود بوليفيا وغواتيمالا يحتمون  بالغابات  - انه اختيار الأسلاف  . وان بالغنا ، اختيار اجباري كالمنفى . فالبدايات لكل الشعوب كانت الهجرة والمنفى ، بحثا عن العيش بسلام   قبل ان ينبت الناس كالبذور من الأرض .  هل يختار المنفي بأرادته مكان منفاه ؟ وهل يختار الأنسان مكان ولادته ؟ لو اخترنا جميعا اماكن ولادتنا لما كان هناك تاريخ خصب للبشرية ينتج الفنون والآداب . .حتى النبات لايختار مكان انباته . الريح والمطر  وحرارة الشمس من تختار له ولادته وانتشاره في الحقول والمراعي  الخصبة او المجدبة . وجدتم انفسكم هنا يا أكراد ، فيما صار كردستان . انه اختيار اسلافكم واختياركم فيما بعد . هذا المكان صار لكم وطنا ، بجباله و وديانه  وسهوله  .  بجيرانه من عرب وترك وفرس   ، بأمطاره وثلوجه ومراعيه . بتاريخه واساطيره  ، بحروبه و سنوات السلم القليلة . انه بركتكم وليس لعنتكم  ، شأنكم شأن العرب ،وشأن  مصريين واتراك وفرس  وعراقيين وفلسطينين مازالوا يبحثون عن بركة للجغرافية امام قسوة التاريخ .

هي الشعوب التي تجعل  من الجغرافية امتيازا باراداتها .الشعوب التي  اجترحت الأفكار والفلسفات ، الخزف والمعمار ، المنائر والأبراج .  الشعوب التي فكرت الأساطير  التي تبعث الأمل والأخرى التي تعاقب ، بنت الزقورات والأكروبولات  والأهرامات ، اساطير العشق والموت ، السدود و المدن والتقاويم   . لم تكن بلاد الأغريق بلاد ماء لكنها انجبت اخصب حضارة في تاريخ الأنسانية حتى اليوم ، وما زلنا نشرب قطرات فلسفتها ومعمارها واساطيرها . لم تكن اليونان يوما اكثر من عشرة ملايين  من الأنفس التواقة للمعرفة واكتشاف العالم .كل ما  بأيدينا اليوم أتى من  اهل النهرين واهل مصر واهل اليونان ، وكانوا قلة . سعوا للحرب في حينها وللسلم حين يبزغ بياضه .

لا لعنة للجغرافية الا اذا كانت الحياة لعنة .من يلعن الحياة لا جغرافية له . المكان ليس لعنة ، انه صعب احيانا . جهد المرء ، جهد الشعوب جمعا ، جعله مكان صالح للعيش بلا اعذار فيزيقية او ميتافيزيقية ، . فالمكان من اهله او ينتهي  بأن يشبه اهله .لم تستطع البشرية تقويم التاريخ لكنها قومت الجغرافية و نحتت من الجبال تماثيلا  ومن التقائها سدود  ومن سفوحها  مدرجات  ، حقولا للقمح والذرة والقهوة  وبساتينا للكروم والتفاح والزيتون .

في رواية " الطوف الحجري " للصديق الراحل خوسية ساراماغو ، الكاتب البرتغالي  الحائز على نوبل للآداب ،  نسف لفكرة لعنة المكان ,  يبتكر  الراوي حلا للخلاص من ثقل اوربا على شبه الجزيرة الايبيرية " اسبانيا والبرتغال " .  تنشق الأرض بزلزال خيالي في شمال شبه الجزيرة وتنفصل البرتغال واسبانيا على اوربا .  تمضي شبه الجزيرة الأيبيرية ، وحدها ، عائمة في لجاج المحيط الأطلسي بعيدا عن ثقل اوربا  وهيمنتها ،  مثل طوف حجري  بجباله وسهوله ومدنه  وبحيراته واهله.  تدفعه الأمواج الأوقيانوسية والرياح الأطلسية  ليصطدم بجزر اللازورد  المتشبثه بعمق المحيط منذ اول الخليقة  .   ثم بحكم الصدمة القوية   تمضي بشبه الجزيرة الأيبيرية  بعيدا ،  نحو افريقيا   .

انها لعنة الجغرافية بصيغتها الشعرية  ـ لكن هل يظل الطوف الحجري  تائها مثل مركب سكران بعيدا عن  جذوره ؟ لقد تخيل الكاتب البرتغالي ، الأفريقي الجذور  ان قدر بلاده السحرية  في افريقيا  بعيدا عن اوربا ومنطقها الرياضي  وصقيعها  و ضجيج حضارتها . لكن  هل تستطيع كردستان ان تمضي على طوف حجري  لتنزع عن قدرها لعنة الجغرافية بواقع الحال  او حتى  في بلاغة ادبية  كبلاغة ساراماغو  ؟ لن يكون الأمر سهلا ، خياليا ، فلا بحر ولا محيط كي يعوم طوف كردستان الجبلي . بل حتى لو طاف واعتلى الموج  من ثغرة من المتوسط على الشاطئ التركي  فلن يغادر الطوف الجبلي  البحر المتوسط  فمضيق جبل طارق ، اضيق من ان تمر فيه غير المراكب و الكردي لا يعرف ركوب البحر بل صعود الجبل .لكن هل من قوة قادرة الى رفع كردستان الى السماء ؟

لاحل للأكراد غير المكوث بين الجبال كما مكثوا منذ قرون . زرعها  وعزف الناي بأنتظار الحصاد . لا حل في بكاء على الأطلال  ولا في تعويذات ضد لعنة الجغرافية .هم هنا في هذا المكان الذي سموه كردستان . من هناك مع الجيران اهل النخيل والصنوبر والسرو ، بعيدا عن مرايا السراب القاتلة للتاريخ  يبدأ الأكراد بترويض الجغرافية والعيش بسلام بأنتظار ان تحل اللغة عقدة اللسان  وعقدة الأمل في دولة كردية مجاورة لبقايا الأمبراطوريات القديمة ، تدفن عقدة لعنة الجغرافية للابد .    

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في فضاء الرأي