: آخر تحديث

متاهة الحروب الأهلية: سوريا نموذجاً

109
102
103

قبل أن نبدأ تحليلنا هذا، ينبغي أن نشير إلى أننا ضد كافة أنواع الأنظمة الدكتاتورية والشمولية وأنظمة الحزب الواحد والحزب القائد والقائد الضرورة، كما كان الحال في العراق، وحاربناه في صفوف المعارضة العراقية طيلة أربعة عقود من المنفى، وبالتالي نعتبر نظام بشار الأسد، امتداداً لنظام والده حافظ الأسد، وهو نظام لا يختلف عن النظام العراقي بشيء إلا ببعض الجزئيات. فهو يحكم باسم حزب قومي شوفيني هو حزب البعث، ويفرض على الشعب سلطة قمعية ودكتاتورية دموية عنيفة، أقول ذلك تمهيداً لتفادي حدوث أي سوء فهم أو إلصاق تهم جزافية بي من قبل البعض بأننا ندافع عن نظام بشار الأسد الاستبدادي، بيد أن ما نقوم به إن هو إلا تحليل جيوستراتيجي محض لما يدور على الساحة السورية، دولياً وإقليماً ومحلياً.
كلنا يعرف اليوم أن ما يجري في سوريا ليس صراعاً سورياً سورياً بحت، بل هو صراع مسلح تقوم به تنظيمات مسلحة مختلفة ومتنوعة أيديولوجياً، بالنيابة عن هذه ة العظمى أم تلك، وهذه الدولة الإقليمية أو تلك. نعم من الإنصاف الإشارة إلى أن الساحة السورية شهدت في البداية سنة 2011، متأثرة بمجريات وانعكاسات أو تداعيات الربيع العربي وما حصل في تونس ومصر، حراكاً شعبياً بريئاً وسلمياً ضد نظام الحكم والمطالبة بإجراء إصلاحات فيه للخروج من الواقع الخانق الذي يضغط على رقاب أبناء الشعب بمختلف مكوناته. لكنه سرعان من تحول إلى صراع دموي مسلح بين العناصر الإسلاموية المسلحة التي خطفت حراك الشعب السلمي العلماني، وحولته إلى مواجهات مسلحة تعمل لحساب أجندات خارجية متنوعة ومتباينة الأهداف والنوايا. ولقد صب ذلك الانزلاق في خانة النظام وجاء لمصلحته لأنه كان يشهر مقولة الدفاع عن النفس ضد الإرهاب الإسلاموي المتمثل بتنظيمي داعش والقاعدة الإرهابيين، بل حتى يشاع أنه أطلق سراح المئات من الإرهابيين المعتقلين لكي يلتحقوا في صفوف التنظيمات الإرهابية الإسلاموية. فالتدخل، بكل أشكاله، كان واضحاً وجلياً وصريحاً في الكثير من الأحيان، ويسير وفق سياقات الصراع الدولي على النفوذ في منطقة الشرق الوسط بين أمريكا وحلفاؤها الغربيين من جهة وروسيا وبعض دول البريكس التي تعارض الهيمنة الأمريكية على المقدرات الدولية. فتركيا العضو في الحلف الأطلسي، والعربية السعودية الحليف الاستراتجي منذ عقود طويلة للولايات المتحدة الأمريكية والغرب، وقطر المحمية الأمريكية بامتياز، وإيران البعبع الخطير الذي نشأ بعد الثورة الإسلامية في أواخر سبعينات القرن الماضي وتحول إلى هاجس مرضي بالنسبة لدول الخليج، وهي قوة إقليمية ذات طموحات توسعية كذلك، كلها لعبت أدوراً سلبية في تأجيج وإدامة النزاع المسلح الدائر على الساحة السورية، ما يعني العمل وفق إستراتيجية المحاور والتحالفات البعيدة عن المصالح الوطنية السورية. بيد أن التغيرات التي طرأت وستطرأ لاحقاً في أعقاب انتخاب الشعبوي دونالد ترامب في أمريكا، وربما الليبرالي اليمين فرانسوا فيون في فرنسا، سوف تؤثر قطعاً على المعطيات السائدة والمتحكمة بالملف السوري حصراً. وها هو وزير خارجية قطر الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني يصرح لرويتر في 26 نوفمبر بأن بلاده ستواصل مساعدة المتمردين السوريين مع أو بدون ترامب. أي أن قطر ستستمر برفد المتمردين السوريين بالسلاح والمال حتى لو أنهى دونالد ترامب مساهمة الولايات المتحدة الأمريكية في الجهود الدولية لصالح المتمردين السوريين حسب تعبيرات وزير الخارجية القطري. وهذا اعتراف صريح بأن هناك تدخلاً أمريكياً مباشراً وغير مباشر في الأزمة السورية في عهد باراك أوباما، وتدخل قطري صريح وعلني في الشؤون الداخلية السورية. كما أوضح الشيخ محمد بن عبد الرحمن آل ثاني أن قطر لاتنوي أن تأخذ لوحدها منفردة مبادرة تزويد المتمردين بالصواريخ المضادة للجو المحمولة على الأكتاف للدفاع ضد الطائرات السورية والروسية، فيتعين أن يؤخذ مثل هذا القرار على نحو جماعي كما شدد الوزير القطري. وبعودة سريعة إلى الماضي القريب، نتذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية دعمت وسلحت تنظيم القاعدة الإرهابي بزعامة أسامة بن لادن إبان مرحلة الصراع ضد الاحتلال السوفياتي لأفغانستان وزودت قوات المعارضة الأفغانية الإسلاموية بمختلف تشكيلاتها، لا سيما القاعدة وطالبان، بصواريخ ستينغر المحمولة لصد هجمات الطيران السوفياتي آنذاك، ما يعني أنها تعرف مدى خطورة مثل هذه الأسلحة إذا ما وقعت بيد التنظيمات الإرهابية على غرار داعش والقاعدة. لذلك أعربت الولايات المتحدة عن قلقها من مثل هذه المبادرة القطرية لأنها تعرف مسبقاً خطر الجماعات الإرهابية الإسلاموية التي قد تصوب الصواريخ المضادة للجو إلى طائرات التحالف الدولي الذي يحارب اليوم تنظيم الدولة الإسلامية داعش في كل من سوريا والعراق. ومن المعروف أن قطر من أوائل مصادر الدعم والتمويل والتسليح للمعارضة السورية المسلحة المناوئة لنظام الأسد إلى جانب تركيا والعربية السعودية وكلها تعمل وفق خطة تشرف عليها وكالة المخابرات المركزية الأمريكية سي آي أ CIA، التي تقضي بتزويد المعارضة السورية المسلحة التي توصف بــ " المعتدلة" بالأسلحة اللازمة وبالتدريب والتمويل وسوف يستمر هذا الدعم حتى لو سقطت حلب بيد قوات النظام المدعومة بالطيران الروسي حسب تصريح رئيس الدبلوماسية القطرية. يبدو أن الوزير القطري يرغب بتوجيه رسالة للرئيس الأمريكي الجديد دونالد ترامب، الذي صرح أنه يمكن أن يوقف المساعدات الأمريكية للمتمردين المسلحين السوريين في المعارضة " المعتدلة" وتركيز الجهود ضد داعش بالتنسيق مع روسيا، وإن فحوى هذه الرسالة هو أن قطر ستستمر في السياسة التي رسمتها لها إدارة باراك أوباما، على أمل أن يغير ترامب وجهة نظره بعد أن تزوده مخابرات بلاده بالمعلومات الحقيقية عن الواقع السياسي والعسكري على أرض الميدان. حيث ردد وزير الخارجية القطري معزوفة أن نظام الأسد هو وقود داعش وذريعتها في البقاء والاستمرار وإن عنف قوات الأسد هو الذي يغذي عنف الجماعات المسلحة الإسلاموية المتطرفة والمتشددة وبالتالي يجب مهاجمة الأصل المتمثل بنظام الأسد على حد قول الوزير القطري. وبهذا الصدد نشر الصحفييان الفرنسييان جورج مالبرونو وكريستيان شينو كتاباً مثيراً للجدل لاقى رواجاً جماهيرياً منقطع النظير حيث نفذت طبعته الثالثة في غضون شهر تحت عنوان " أعزاءنا الأمراء Nos très chers émirs، الذي يكشف دور قطر والعربية السعودية في تمويل التنظيمات الإرهابية كتنظيم النصرة الذي أصبح فيما بعد تحرير الشام وهو الواجهة السورية لتنظيم القاعدة الإرهابي الدولي الذي يقوده أيمن الظواهري اليوم خليفة أسامة بن لادن، كما يفضح بعض السياسيين الفرنسيين، من اليمين واليسار على حد سواء، واستجدائهم للمال القطري، على سبيل المثال النائب الاشتراكي نيكولا باي الذي طلب من سفير قطر في باريس دفع تكاليف عطلته مع زوجته، وجو ماري لوغون سكرتير دولة مكلف بالعلاقات مع البرلمان الذي اقنع القطريين أنه بمنصبه هذا يمكنه أن يضع النواب والسيناتورات من حزبه في قبضته والسيطرة على الأسئلة المطروحة على الحكومة خاصة تلك المعادية لقطر أو العكس لكنه لن يقوم بذلك مجاناً، وهذا نوع من الابتزاز الدبلوماسي، وهناك وزراء سابقون مثل رشيدة داتي ودومنيك دوفيلبان وجاك لانغ رئيس معهد العالم العربي الحالي ووزير الثقافة الفرنسي الأسبق والسيناتور من حزب الوسط ناتالي غوليه متهمون بتلقي أموال وهدايا ثمينة من دولة قطر، لكن أغلبهم أنكر ذلك وطالبوا بالإثباتات والدلائل فرد عليهم جورج مالبرونو أنها كلها موجودة في الكتاب وبالتفصيل والأرقام والتواريخ مثلما ذكر أسماء ممولي الإرهاب المقيمين في الدوحة وترعاهم وتحميهم مشيخة قطر والعائلة الحاكمة استنادا إلى اعترافات صريحة من قبل بعض المتهمين إلى جانب وثائق استخباراتية سرية حصل عليها المؤلفان في تحقيقهما الرائع هذا. وينبغي الإشارة إلى كتابهما السابق وهو " دروب دمشق Les Chemins de Damas عن العلاقات السرية بين فرنسا وأجهزتها المخاباراتية والدبلوماسية مع النظام السوري خلال عقود عديدة ولقد صدرت قبل أيام الترجمة العربية لهذا الكتاب. 
وبالتوازي مع ما أصاب العلاقات الأمريكية السعودية من برود إثر التوصل إلى الاتفاق النووي مع إيران، نشطت فرنسا ملفاتها الدبلوماسية مع دول الخليج وعلى رأسها المملكة العربية السعودية فلقد اقترب باريس أكثر من الرياض على أمل أن تغدو الشريك التجاري الأول للمملكة وحاولت التوقيع على عدة صفقات بحدود 10.7 مليار يورو أي ما يعادل 11.6 مليار دولار منها شراء 50 طائرة أيرباص، ولقد نجحت الشركات الفرنسية بيع ما قيمته20 مليار يورو للعربية السعودية منذ العام 2012، ومع ذلك شدد المؤلفان على فشل الدبلوماسية الفرنسية في عهد لورن فابيوس التي لم تكن بمستوى التمنيات. والحال أن العربية السعودية وقطر ومعهما فرنسا طالبوا برحيل بشار الأسد وإطاحة نظامه، ولكن لم تكن لدى الدول الثلاثة نفس الأهداف على الأرض ولا نفس السبل والوسائل ولا نفس الحلفاء المحليين. فالدول الخليجية كانت تهتم بالحد من تنامي نفوذ طهران المتعاون مع النظام العلوي السوري أكثر من اهتمامها بإرساء الديموقراطية الحقيقية في سوريا لأنها ابعد ما تكون عن الديموقراطية. أما فرنسا فقد غضت النظر عن تفاقم الديناميكية الإسلاموية وهيمنتها على المعارضة السورية المسلحة وتجاهل الدور الذي لعبته المخابرات الخليجية، فلم تنفع تحذيرات المخابرات الفرنسية DGSE، ولا تقارير وتحليلات كبار موظفي وخبراء وزارة الخارجية الفرنسية من دفع الحكومة الفرنسية إلى اتخاذ مواقف أكثر حزماً وصرامة تجاه الانتهاكاك والخروقات للشرعية الدولية التي تقوم بها دول الخليج فيما يتعلق بالملف السوري رغم معرفتها منذ خريف 2012 بعمليات التمويل والتجهيز بالسلاح وتسهيل مرور المتطوعين والمقاتلين والخبراء والمستشارين والمدربين والعملاء إلى سوريا عبر الأراضي التركية وبالتعاون مع نظام رجب طيب ردوغان وبتمويل خليجي وذكر المؤلفان جورج مالبرونو وكريتسان شينو قضية المدعو عبد الرحمن النعيمي الذي وصفته وزارة الخزانة الأمريكية كأحد أكبر الممولين للمنظمات الإرهابية التي تحارب النظام في سوريا وتزويده بالمعدات التكنولوجية المتطورة حيث قام بتحويل ما لا يقل عن 600000 دولار للمدعو أبو خالد السوري مبعوث زعيم تنظيم القاعدة الإرهابي أيمن الظواهري. وفي السياق ذاته، وبمبادرة من المعهد الفرنسي للعلاقات الدولية إيفري l'Institut français des relations internationales، IFRI، تم تنظيم مؤتمر دولي عن السياسة الخارجية World Policy Conference (WPC)، في الدوحة في قطر وكرست طاولتين مستديرتين لدراسة الوضع المتفجر في الشرق الأوسط ومخاطره، من 20 إلى 22 نوفمبر 2016 ووجهت أصابع الاتهام للنظام السوري باعتباره المسؤول الأول والرئيسي عن نشوب الحرب الأهلية في سوريا وضرورة تنظيم عمل جماعي متعدد الجوانب والبحث في الجذور الحقيقية العميقة للمشاكل التي تعصف بالشرق الأوسط. ولقد سبق للرئيس الأمريكي المنتهية ولايته باراك أوباما أن صرح بأن بشار الأسد فقد شرعيته بسبب المذابح التي ارتكبها بحق شعبه، وطالب المؤتمر بلسان رئيس الوزراء السوري السابق المنشق عن النظام رياض حجاب، بتشكيل حكومة انتقالية مؤقتة لا تضم من تلطخت أيديهم بدماء الشعب السوري، ويعني بذلك بشار الأ سد، بغية التوصل بالطرق السلمية والديموقراطية إلى نظام سياسي ديموقراطي تعددي، مناشداً المجتمع الدولي بالتدخل لفرض وقف ملزم لإطلاق النار وإيصال المساعدات الإنسانية للسكان المدنيين المحاصرين في مواقع القتال. وبهذا الخصوص صرح وزير الخارجية الفرنسي الحالي ورئيس الوزراء الفرنسي السابق جون مارك آيرو بأن من الخطأ المراهنة على بشار الأسد للتخلص من داعش فذلك سيكون خطأً اخلاقياً واستراتيجياً، بعد أن استعرض الظروف الدولية ومدى تأثير الإرهاب على الوضع في سوريا، وقال أنه لا داعش ولا النظام السوري يحترمان حقوق الإنسان وأدان الإثنين بنفس المستوى وفي نفس الوقت كما أدان عمليات القصف الوحشي على المدنيين في حلب، كما شدد على وجوب تشجيع إيران لكي تصبح عضواً فاعلاً ومسؤولاً في المنطقة وليس مصدراً للتخريب، وشدد على أن استقرار المنطقة يمر عبر إيجاد حل للقضية الفلسطينية. ولقد اعترض رئيس الدبلوماسية الفرنسية على تحليلات بعض الأطراف في الغرب، ومنهم مرشح اليمين والوسط للرئاسة فرانسوا فيون، بأن الوضع الحالي في سوريا يستدعي الاختيار بين داعش ونظام الأسد وإن الأولية هي للتخلص من داعش وبأسرع وقت حتى لو أدى ذلك للتنسيق مؤقتاً مع نظام بشار السد وقواته التي تقاتل داعش على الأرض. وفي نفس الوقت أعرب عن معارضته لمشاريع تقسيم سوريا على أساس ديني وعرقي ومذهبي أو طائفي. بقي أن نعرف أن خارطة القوى المتصارعة عسكرياً على الساحة السورية هي، من جهة، قوات النظام السوري النظامية تساندها قوات من حزب الله اللبناني وخبراء ومستشارين روس وإيرانيين على الأرض وطائرات روسية في الجو وبعض المتطوعين ممن تسميهم الأوساط الإعلامية بالشبيحة ومتطوعين آخرين من مختلف الدول العربية، وقات حماية الشعب الكردي التي تحارب داعش، وكلهم يقاتلون إلى جانب قوات النظام، ومن جهة أخرى، هناك مقاتلي داعش الإرهابية ومقاتلي جبهة النصرة أي القاعدة السورية والجيش الحر وقوات تركية دخلت إلى داخل الأراضي السورية لمحاربة الأكراد بحجة المشاركة في قوات التحالف الدولي لمحاربة داعش ومجموعة من القوات الخاصة الغربية والخليجية وعدد من المستشارين والخبراء الأجانب والعرب الخليجيين، الذين يقدمون الدعم والتدريب والمشورة إلى قوات المعارضة السورية المسلحة بكافة أصنافها وانتماءاتها.
 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في