: آخر تحديث

الانتقام.. بين الفن والتأثير النفسي

0
1
0

الانتقام كفكرة إنسانية قديمة تتجاوز حدود الزمان والمكان؛ تجد ملاذاً في السينما والدراما كأداة لسرد القصص التي تعكس تعقيدات النفس البشرية. لكن ما الذي يجعل هذا المفهوم ملهمًا لصنّاع الأفلام عبر الثقافات؟ وكيف تسهم هذه الصور في تشكيل عقلية المشاهد وسلوكه؟ من خلال استكشاف تمثيل الانتقام في السينما الغربية والآسيوية والعربية، نكتشف كيف تتحول الفكرة من مجرد حبكة درامية إلى رسالة نفسية عميقة تعيد تعريف علاقتنا بالعدالة والعنف.

في السينما الغربية، يصور الانتقام كعمل بطولي يبرر استخدام العنف لتحقيق العدالة. فيلم Kill Bill مثالٌ صارخ، حيث تتحول "العروس" إلى رمز للانتقام المنظم عبر مشاهد مسرحة بأسلوب فني جذاب: الألوان الزاهية، الموسيقى المختارة بدقة، والعنف المفرط الذي يقدم كـ"فن". هنا، لا ينظر إلى الانتقام كانحراف أخلاقي، بل كرد فعل مبرر ضد الظلم. هذا التمثيل يخلق لدى المشاهد شعورًا بالرضا العاطفي (Catharsis)، وفقًا لنظرية أرسطو، حيث يشعر أنه "انتصر" مع البطل. وهذا النوع من الصور قد يعمق فكرة أن العنف حل مقبول للصراعات، خاصةً عندما يقدم كـ"عقاب إلهي" أو "عدالة ذاتية". فالمشاهد الذي يتعرض باستمرار لسيناريوهات تمجد الانتقام، قد يبدأ بتوظيفه كنموذج سلوكي في حياته، مستبدلًا الحوار بالعنف كوسيلة لحل الخلافات.

على النقيض، تقدم السينما الآسيوية، خاصة الكورية واليابانية، الانتقام كحلقة مدورة من الدمار الذاتي. فيلم أولد بوي (2003) يجسد هذه الفكرة بقوة: شخصية "أوه دايسو" تسعى للانتقام من خاطفيها، لتجد في النهاية أن أفعالها كانت جزءًا من مخطط معد سلفًا، مما يكشف عن عبثية السعي وراء الانتقام. المشاهد الرمزية كـ"مشهد الأخطبوط" أو القتال في الممر الضيق باستخدام مطرقة واحدة، تظهر كيف يتحول الانتقام إلى هوس يفقد الإنسان إنسانيته. هذا التمثيل يترك أثرًا نفسيًّا عميقًا على المشاهد؛ فهو لا يكتفي بإثارة الغضب، بل يدفعه للتأمل: هل الانتقام يرضي الجرح، أم يفتح جراحًا جديدة؟ هذه النوعية من الأفلام تحفز مناطق الدماغ المرتبطة بالتعاطف، مما يقلل من الرغبة في الانتقام في الواقع، ويدفع المشاهد إلى البحث عن حلول سلمية.

في السياق العربي، يرتبط الانتقام بالهوية الاجتماعية والعائلية، خاصة في الدراما التلفزيونية التي تعكس قيم "العرض" و"الكرامة"، مسلسل الهيبة اللبناني، على سبيل المثال، يصور صراعات قبليةً حيث يصبح الانتقام جزءًا من بناء الشخصية وحماية المكانة الاجتماعية. العناصر الفنية هنا تركز على الواقعية: المواقع التراثية، اللهجة المحلية، والتفاصيل اليومية التي تضفي مصداقيةً على الحبكة. لكن التأثير النفسي يختلف هنا؛ فالمشاهد العربي قد يرى في هذه الصور انعكاسًا لواقعه، مما يعمق لديه فكرة أن الانتقام وسيلةٌ لاستعادة الاعتبار. في المقابل، قد تسهم هذه الصور في تكريس حلقات العنف في المجتمع، خاصةً عندما تقدم كـ"ضرورة ثقافية". هنا، المشاهدون من الفئات العمرية الشابة هم أكثر عرضةً لاستنساخ هذه السلوكيات، مخلطين بين الفن والواقع.

السؤال الجوهري: هل السينما تعلم الناس الانتقام، أم تساعدهم على فهمه؟ تشير نظرية التعلم الاجتماعي لباندورا إلى أن المشاهدين، خاصة الأطفال، يقلدون ما يرونه على الشاشة. فعندما يقدم الانتقام كـ"حل سحري"، يصبح نموذجًا يحتذى به. لكن من ناحية أخرى، ترى نظرية التنفيس (Catharsis Theory) أن مشاهدة الانتقام في الأفلام تخفف من الغضب الداخلي، مما يقلل السلوك العدواني في الواقع. الحقيقة تكمن في الوسط: السياق الثقافي والوعي النقدي للمشاهد هما المفتاحان. فالمشاهد الذي يحلل الصورة بدلًا من استهلاكها، يخرج بفهم أعمق لتعقيدات الانتقام، بدلًا من تبنيه كسلوك.

السينما، ليست مجرد ترفيه، بل مرآةٌ تعكس مخاوفنا وقيمنا. حين نشاهد الانتقام على الشاشة، نرى أنفسنا: هل نحن ضحايا أم جناة؟ وهل نختار كسر الحلقة أم إكمالها؟ الفن الجيد لا يجسد الانتقام فحسب، بل يطرح أسئلةً تجبرنا على مواجهة ظلالنا الداخلية. يقول الفيلسوف نيتشه: "من يحارب الوحوش فليحذر ألا يصير واحدًا منهم، فحين تنظر إلى الهاوية طويلاً، تنظر الهاوية إليك أيضًا". فمهما بدا الانتقام مبررًا، قد يحول الضحية إلى وحش جديد. والسينما الحقيقية هي التي تعلمنا أن نبتعد عن الهاوية قبل أن تبتلعنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد