سليمان جودة
إذا شئت كلمة واحدة ترى من خلالها قمة الإعلام العربي، التي أنهت أعمالها في دبي قبل أيام، فهذه الكلمة هي الطموح الذي لا يحقق صاحبه شيئاً إلا ليذهب إلى ما سواه على طول الطريق، فقبل 24 عاماً كانت هذه القمة نبتة وليدة، وكانت النبتة بالكاد ترى النور، وكانت تتحسس خطاها وتتلمسه أمامها، فلما دار الزمان دورته صارت النبتة قمة، ولم تعد جائزة الصحافة العربية، التي رافقت البداية جائزة واحدة، ولكنها أضحت كأنها شجرة تتمدد فروعها في هذا الناحية مرة، وفي تلك النواحي مرات ومرات، وهذا يعود إلى أن صاحب السمو الشيخ محمد بن راشد آل مكتوم، نائب رئيس الدولة رئيس مجلس الوزراء حاكم دبي، رعاه الله، قد رعى الفكرة منذ خطوتها الأولى، والرعاية في حالة كهذه لا تبقى مجرد كلمة تقال، ولا تقف عند حدود الشعار الذي قد ترفعه الجائزة من دورة إلى دورة وفقط، ولكن تجري ترجمتها إلى فعل يأخذ بيد الجائزة، ومعها نادي دبي للصحافة، الذي ولدت الجائزة في داخله، ومعهما القمة التي انتهى إليها التطور المتتابع، ثم المهنة التي من أجلها كان هذا كله قد رأى النور في الأساس.
أسمع الأستاذة منى المري، نائب الرئيس والعضو المنتدب لمجلس دبي للإعلام، رئيسة نادي دبي للصحافة، وهي تتكلم عن أن الإعلام في زمن التحولات هو شعار هذه الدورة من دورات القمة، فأفهم أن القصة كانت وراءها مند البداية فلسفة حاكمة، وأن الفلسفة كانت تتلخص في أن إعلام العرب يجب ألا يتخلف عن إعلام العالم المتطور، وأن الإعلام صناعة، وأن الصناعة من شأنها أن تشهد تطوراً في كل وقت، وأن هذا التطور إذا لم يواكب ما هو حاصل في إعلام العالم فإن المهنة تتوقف وتتجمد، وقد تموت، وهذا ما لا نستحقه، ولا يستحقه إعلامنا كعرب، ولا يجوز أن نقبل به أو نتقبله.
تسمع وتتابع أن قضية الذكاء الاصطناعي كانت في مقدمة القضايا التي وضعتها القمة على جدول أعمالها، فيتبين لك أن الذين وضعوا جدول الأعمال رأوا ما يطرأ كل يوم في هذه القضية بالذات، وتابعوا الصلة التي تربطها في الإعلام على مستوى الأداء، وعلى مستوى الشكل، وعلى مستوى المحتوى، الذي يقدمه الإعلام للمتلقي.
تابعوا ذلك ورصدوه فكان لابد أن تكون قضية الذكاء الاصطناعي في موقع متقدم على أجندة القمة، وأن يكون الهدف هو الوصول إلى طريقة تضمن أداء متنوعاً ومختلفاً لصالح المتلقي، وتكفُل محتوى لا بديل عن أن يصل إليه في مكانه، إذا كان له أن يكون على اتصال بطبيعة العصر الذي يعيشه فلا ينفصل عنه، ولا يبتعد عن مساره المتدفق.
الفكرة لم تعد جريدة تصدر ورقياً أو إلكترونياً، ولا عادت موجة إذاعية تحمل إلى المستمع ما تلتقطه أُذناه، ولا هي شاشة يطل من فوقها متكلم يخاطب الناس، ولا حتى مجرد موقع إلكتروني يخاطب جمهوره بلغة العصر.
ليست الفكرة كذلك، رغم أن الشكل مهم، ورغم أنه جزء من المضمون، ولكن الفكرة هي محتوى يخرج من هذه الأشكال والصور كلها، ليصل في النهاية إلى طرف يقصده ويستهدفه، هو المتلقي الذي ينتظر خدمة إعلامية مكتملة يستحقها بالتأكيد.
ولو أننا صورنا الخدمة الإعلامية، التي ينتظرها المتلقي على أنها سلعة، فلن يكون في ذلك ما يقلل من شأنها، لا لشيء إلا لأنها كذلك بالفعل في هيئتها الأخيرة، ولأن متلقي هذه الخدمة مستهلك في حقيقة الأمر، وكل الفارق أنه في حالة السلعة المادية يستهلك سلعة تخاطب حاجة جسدية لديه، بينما في حالة الخدمة الإعلامية يتطلع إلى سلعة من نوع آخر. سلعة تخاطب في المقابل حاجة عقلية عنده، ولا بديل عن مستوى من الجودة في الخدمة، كالمستوى الذي لا تكون السلعة سلعة بغيره، وإلا فإن الخدمة الإعلامية تصل منقوصة أو حتى مغشوشة.
هذه قمة إعلامية انعقدت في دبي، فكانت الخدمة الإعلامية، التي هي حق أصيل للمتلقي، هماً أول على طاولتها، وبنداً على رأس جدول أعمالها، وكانت الغاية أن تتسع الأجواء لما يتكفل بإنتاج ما يليق بعقولنا، وتليق عقولنا به في أرض العرب.
لنا أن نتصور كيف كان حال الإعلام هنا في منطقتنا العربية، ثم في العالم من ورائها، يوم بدأ نادي دبي للصحافة أولى خطواته في 2001، فإذا انعقدت مقارنة بين ما كان وبين ما هو كائن، تبين لنا أن ما كان يقاس بالسنوات عند بداية القرن قد صار يقاس في أيامنا بالشهور، وربما بالأسابيع والأيام، وأن ذلك يتجلى في الإعلام شكلاً وأداء بأكثر مما يتجلى في ميدان آخر.
إن نظرة شاملة على المشهد أمامنا سوف تكشف أن مسافة تقوم بين ما كان قبل ربع قرن، وبين ما هو كائن في الإعلام، وهذه مسافة لم تتولد من فراغ، ولكنها تولدت من انشغال الإعلام في جانب كبير منه عما هو مدعو إليه على مستوى صناعة الوعي بالذات، وإذا كان هناك شيء خرج به الجمهور المتابع من قمة الإعلام فهذا الشيء هو أن على إعلامنا العربي أن يعود لينشغل بما انشغل عنه، وأن يشتغل عليه.