: آخر تحديث

الأصولية النائمة في شرق آسيا

5
4
4

منذ أواخر السبعينات انشغل المختصّون بالإسلام السياسي ونواحيه بموضوعاتٍ محددةٍ أخذت جلّ اهتمامهم ووقتهم وطاقتهم؛ وما كان التركيز على الأصولية شاملاً، بل أخذت بقع جغرافيةٍ معيّنة حيّزاً كبيراً؛ أصوليات آسيا الوسطى، والشرق الأوسط، والساحل الأفريقي كانت ولا تزال أساسيّة في مجالات البحث والتحليل لظواهر الأصوليات المتوالدة والصاعدة.

بيد أن المهمل في كل ذلك ما أسميه بـ«الأصوليّة النائمة» في شرق آسيا، تحديداً في جنوب شرق آسيا، وأقصد بالضبط «الأصولية في إندونيسيا»، التي أخذت حيّزاً من المشهدية الإعلامية والتحليلية في التسعينات مع تصاعد العنف والإرهاب آنذاك، وعليه فإن التذكير بهذا ضروري من أجل اكتمال الصورة حول الأصوليات المنغمسة في المجتمعات الإسلامية، التي تعمل بصمتٍ مخيف ومقلق.

لذلك اهتممتُ بكتابٍ أصدره «مركز المسبار للدراسات والبحوث» تحت عنوان «الإسلام الأرخبيلي في إندونيسيا: المجتمعات والجماعات ومكافحة الإرهاب». شارك فيه مجموعة من المتخصصين.

هدف الكتاب، كما في مقدمته، إلى درْس تاريخ الإسلام الإندونيسي وآليات تكيّفه السلمي مع التقاليد والعادات والممارسات الثقافية المحلية على مدار العصور، وانعكاس هذا التكيف الثقافي - الديني في المجتمعات المسلمة المحلية والوافدة، وأنماط تدينها الشعبي وتعليمها الديني، مؤرخاً لنشأة المؤسسات الإسلامية التقليدية وتأسيس الجمعيات، وعلى وجه التحديد جمعيتي «المحمّدية» (Muhammadiyah) (1912) و«نهضة العلماء» (Nahdlatul Ulama) (1926) الأكثر تأثيراً ونفوذاً في البلاد، مناقشاً طبيعة العلاقة بين الدين والسلطة في حقبة الديمقراطية والنهوض بالإصلاحات السياسية، آخذاً بالاعتبار المخاطر الناجمة عن الظاهرة الإسلاموية وظهورها المبكر ومخاطرها على الدولة والمجتمع والدين، مقابل جهود الحكومة الإندونيسية في مكافحة الإرهاب وتأهيل المتطرفين.

ألخّص بالتحديد موضوع الإرهاب في إندونيسيا. بمحور التنظيمات الإسلاموية الإرهابية في إندونيسيا، عرض الباحثان محمد سفيان (Muhammad Sofyan) ومحمد شوقي الله (Muhamad Syauqillah) لتاريخها ومساراتها؛ وجرت مقارنتها بمتغيرين تاريخيين: الأول، حرب بادري (Padri War) (1803-1837)؛ التي حملت بذور التشدّد الديني؛ وعكست التزاحم بين تشدد وافد من الخارج والإسلام الشافعي التقليدي المحلي؛ والمتغير الثاني، ظهر إثر إلغاء الخلافة سنة 1924، فظهرت حركات إسلاموية عدة، أبرزها حركة «دار الإسلام» (Darul Islam/DI) التي أُسست أواخر الأربعينات، على يد سيكارمادجي مريدجان كارتوسويرجو (Sekarmadji Maridjan Kartosoewirjo) (1907- 1962)، المتأثر بالأفكار اليسارية والقومية، مما أضفى على مشروعه بُعداً دينياً بل وثورياً.

لقد جذبت، كما يرى الباحثان، حركة «دار الإسلام» عسكريين سابقين ونشطت في مناطق عدة في إندونيسيا (جاوة الغربية، آتشيه، جنوب سولاويزي، كاليمنتان)، ولكنها لم تنجح في تحقيق مشروعها، وانتهت رسمياً بعد إعدام كارتوسويرجو سنة 1962، إلا أن أفكارها بقيت وتحوّرت في أشكال جديدة لاحقاً. وتوالت بعد ذلك موجات جديدة من التنظيمات مثل «الجماعة الإسلامية» التي تأسست في ماليزيا سنة 1993 وارتبطت لاحقاً بـ«تنظيم القاعدة»، ثم «مجلس المجاهدين الإندونيسي» الذي ركّز على تطبيق الشريعة، فـ«جماعة التوحيد والجهاد» بقيادة أمان عبد الرحمن، التي مثّلت مرحلة انتقالية نحو الولاء لتنظيم «داعش».

ومن ثم ظهرت «جماعة أنصار التوحيد» و«جماعة أنصار الدولة»، وهما امتداد طبيعي للانشقاقات الفكرية والتنظيمية عن الجماعات السابقة، وتبنّتا تدريجياً العمل المسلح والدعاية الإلكترونية. وتُظهر هذه التحوّلات أن التطرف في إندونيسيا لم يكن نابعاً من مدارس دينية راسخة، بل من شبّان تلقوا تعليماً غير تقليدي، متأثرين بتحولات خارجية يحملون غضباً تجاه الحكومات المحلية، ويخفون أنشطتهم الخيرية والدعوية، ما يسهّل تحولهم إلى خلايا نائمة، أو جماعات معزولة، أو حتى ذئاب منفردة.

الخلاصة؛ أننا أمام مشهد أصولي خافت ولكنه فعال؛ بخاصةٍ في القارات الرخوة التي يسهل الانغماس النظري والتنظيمي فيها، وحين ندرس الأصولية في إقليمنا وهي أعنف الأصوليات وأشدها فتكاً يجب ألا ننسى الأصوليات المنغمسة في شرق آسيا، وهذا الجانب الذي نجح في تحليله الباحثون في الكتاب آنف الذكر.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد