علي عبيد الهاملي
عاد جهاز «البيجر» إلى الواجهة من جديد، فأصبح حديث الناس ومحور أخبار وسائل الإعلام العربية والعالمية، وراجت سوق المحللين العسكريين وخبراء التكنولوجيا وتقنية المعلومات وضباط الاستخبارات السابقين، بعد الضجة التي أحدثها الأسبوع الماضي استهداف أجهزة «البيجر» التي يستخدمها «حزب الله» تفادياً للاختراق، وآلاف الضحايا الذين سقطوا نتيجة تفجير ما يقرب من 4000 جهاز في آن واحد، ثم ما جرى في اليوم التالي من استهداف أجهزة اللاسلكي وتفجيرها هي الأخرى، ليتوزع الحديث على الجهازين، وإن كان الحديث عن أجهزة «البيجر» بدا أكثر تشويقاً لارتباطه بمرحلة عاشها الكثيرون منا، هي تسعينيات القرن الماضي التي ظهر فيها هذا الجهاز العجيب وقتها، وكيف كان الناس يتسابقون إلى اقتنائه ويتباهون بذلك، إلى الدرجة التي أصبح معها اقتناء «بيجر» يُعَدّ نوعاً من «البريستيج» لدى الكثيرين، بغض النظر عن وظائفهم، ومناصبهم، وأعمارهم، ومكانتهم الاجتماعية، وجنسياتهم.
لن أذهب إلى التحليل الأمني والعسكري والاستراتيجي والهجمات السيبرانية المخابراتية التي أشبعها المتحدثون في القنوات الإخبارية ووسائل الإعلام المختلفة تحليلاً وتمحيصاً وتقليباً، حتى لم يعد ثمة مجال للإضافة في هذه الجوانب، ولكن سأحاول أن أستعيد شيئاً من ذكريات ذلك الزمن الذي ظهر فيه هذا الجهاز، وهو أوائل التسعينيات من القرن الماضي، ثم اختفى، ليصبح البحث عن واحد من هذه الأجهزة اليوم هواية يمارسها المهتمون بجمع الأشياء القديمة.
في كتابه الذي يسجل فيه أبرز محطات رحلته في قطاع الاتصالات «محطات رحلة المهنة والحياة»، يذكر المهندس محمد عمران، الذي شغل منصب رئيس مجلس إدارة مؤسسة الإمارات للاتصالات ورئيسها التنفيذي، أنهم أدخلوا جهاز النداء «Paging» إلى الإمارات على أساس أنه أرخص ثمناً وأخف وزناً، ويمكن لأي شخص أن يحمله في جيبه، بحيث يصبح الوصول إليه ممكناً، إذ يرن الجهاز الذي يحمله معه عندما يريد شخص ما التواصل معه ويظهر رقم المتصل، فيقوم بإجراء المكالمة من أقرب مكان متاح فيه تليفون، سواء كان هاتفاً نقالاً أو ثابتاً.
ويشير المهندس محمد عمران، الذين يعتبر أحد أوائل مهندسي الاتصالات في الإمارات، إلى أنهم اعتمدوا مبلغاً مقطوعاً قدره 80 درهماً كل ثلاثة شهور لاستخدام الخدمة، بغض النظر عن عدد مرات الاستخدام، ويقول إنه تم إنهاء العمل بالنظام بعد منتصف التسعينيات من القرن الماضي.
اختارت المؤسسة لأجهزة النداء أسماء عدة منها؛ «مبشر» و«طارش» و«نهّام» و«منادي». وكان اختيار رقم متسلسل سهل الحفظ لجهاز «البليب»، كما كان يسمى في الإمارات، لا يقل أهمية عن اختيار رقم مميز للسيارة.
وغدا رقم «البليب» يدل على مكانة حامله الوظيفية والاجتماعية والمادية، فكلما كان الرقم متسلسلاً سهل الحفظ دل على أن صاحبه ذو نفوذ وسلطة ومكانة اجتماعية رفيعة.
في تحقيق طريف أجرته الصحافية بمكتب «البيان» في العين جميلة إسماعيل، وتم نشره عام 2015م، تحت عنوان «البليب.. نداء تفاخر الطيبين»، يقول الباحث في التراث الإماراتي عبدالله الكعبي إن أطرف المواقف المرتبطة بجهاز النداء في تلك الفترة هو أن البعض كان يستخدمه لادّعاء الأهمية في المناسبات العائلية والاجتماعية، وذلك بأن يطلب من قريب له أن يكرر المناداة للتفاخر أمام الآخرين.
وفي الشارقة، يجلس حميد سعيد الطنيجي مع أصدقائه على أحد الشواطئ، فيشعر باهتزاز، ويرى نور جهازه. يتكرر الاهتزاز مصحوباً بنغمة، فيخرج حميد الجهاز من جيبه بنوع من التفاخر وسط أصدقائه مستأذناً في التوجه لأقرب هاتف للاتصال استجابة لنداء جهازه وقد بَيت النية في قرارة نفسه على أن يتملص من الجلوس لفترة طويلة مع أصدقائه، مدعياً حدوث ظرف طارئ في بيته.
ويذكر عمر محمد سعيد أن أخاه كان يطلب منه ومن باقي إخوته أن يتصلوا به على جهاز «البليب» مرات عدة، لاسيما عندما يكون مع أصدقائه في المقهى، وذلك من باب «الفشخرة» والتباهي. وكان هناك من يشتري محافظ جلدية فاخرة للحفاظ على جهازه من أي خدش، وكي لا يتعرض لعطل في حال وقوعه على الأرض.
عاد جهاز «البيجر» إلى الواجهة من جديد، لكنه لم يعد نداء تفاخر الطيبين، ولكن وسيلة قتل وإيقاع إصابات، في زمن الحروب المفتوحة على كل الأسلحة والاحتمالات.