د. محمد النغيمش
يمتلك القياديون المهرة قدرة فائقة على تحويل ما يعتبره الآخرون نقاط ضعف إلى مواطن قوة.. هذا ما فعله جاك ويلش رئيس شركة جنرال إلكتريك، أحد أبرز قياديي القرن العشرين، والذي تقاضى أكبر مكافأة نهاية خدمة في التاريخ بلغت نحو 400 مليون دولار.
كان من حوله يضجر من شدة صراحته، إلا أنه يعتبر «عدم الصراحة» «سلوكاً مدمراً» لأنه يحول دون تدفق الأفكار الذكية، وتحسن الأداء، فضلاً عن أن غياب الصراحة يشكل حجر عثرة أمام إسهامات المميزين، حسب ما قال في كتابه الجميل «الفوز».. بل خصص للصراحة فصلاً كاملاً.
ولذلك قسم جاك ويلش الموظفين في شركته، العابرة للبحار، إلى 3 شرائح رئيسة: الأعلى أداءً بنسبة 20%، والوسطى بنسبة 70%، والأقل كفاءة بنسبة 10%. ويؤمن بشدة بضرورة فصل الفئة الأخيرة من دون تردد. البعض وصف ذلك النهج بالقسوة المبالغ فيها، غير أن جاك يعتقد بأنه من الأفضل «مصارحة» الموظف بضعف أدائه في وقت مبكر، وإعطائه فرصة لتحسينه أو البحث عن وظيفة داخلية تناسب مهاراته، بدلاً من انتظار تحسن أدائه.
والمتأمل لمبدأ الصراحة يجد فيه راحة في العمل، لأنه لن يصبح لنظام تقويم الأداء جدوى تذكر من دون أن يصارح المدير مرؤوسيه بنواحي قصورهم. فهو يعزز الثقة، ويشجع الإبداع والتفاني، ويرفع الروح المعنوية للعاملين بتقليل النزاعات الخفية. والصراحة كذلك تسهم في حل المشكلات، التي قد يكون أداؤنا «المتقاعس» جزءاً لا يتجزأ منها!
ولذلك يرى جاك ويلش أنه إذا لم نخبر العاملين بأن أداءهم دون المستوى المطلوب، واستمر ذلك التقاعس لسنوات عدة، ولم نمنح صاحبه فرصة تطوير مستواه، فسوف تتفاقم المشكلة مثل كرة الثلج. ذلك أن جلسات الصراحة تثمر حلولاً أخرى، مثل ملاحظة من كان «متراخياً» ثم صار من «أكفأ» الموظفين بعد تحويله إلى إدارة يحب العمل فيها. وكم فرد بزغ نجمه لأنه أتيحت له فرصة العمل في مجال شغفه. والشغف ليس كافياً، فما نحبه لا يعني بضرورة أننا نجيده.. هنا تأتي فرصة التكليف أو التجربة قبل قرار التثبيت.
هناك شاب عربي، ابتكر موقعاً اسمه «صراحة» يمكن أن نرسل منه رابط صفحتنا لمن نشاء في العمل أو وسائل التواصل الاجتماعي حيث يتيح لهم حرية «جلدنا جلداً» من دون خشية إظهار أسمائهم.. فهي خدمة «مشفرة» وسرية تخفي اسم الناقد، وروعتها أنها قد نتلقى منها أيضاً كلاماً طيباً ومشجعاً، عكس ما نتوقع. وفي جميع الأحوال تعد خدمة صحية «وتقوي جلد» متلقي سهام النقد الذي لا يجرؤ أحد على البوح به.
إن تقبل الناس للصراحة يتفاوت، ولذلك من الحكمة تلطيف الصراحة في البدايات بالتلميح والتورية، فإذا لم يستوعب المرء استحق صراحة المواجهة، غير أن بعض الأخطاء الفادحة التي تتعدى تداعياتها لآخرين لا تحتمل مبدأ التدرج في المواجهة.. فمن يخفق في قيادة دفة السفينة أو يهملها استحق شتى أصناف التوبيخ.
المهارة الحقيقية ليست الصراحة التي يفاخر بها البعض، بل القدرة على توجيه سهام النقد بأرشق العبارات وأذكاها لتصل الرسالة إلى كل لبيب بالإشارة يفهم.. بعضنا لا يحتاج سوى «قرصة» خفيفة أو دعابة نقدية في مواقف لا تتطلب نبالاً ولا أعيرة نارية. وبين الصراحة والوقاحة شعرة معاوية.. ولذلك قيل «لا تبالغ في المجاملة حتى لا تسقط في بئر النفاق، ولا تبالغ في الصراحة حتى لا تقع في وحل الوقاحة».