مفتاح شعيب
لم تترك إسرائيل بدعة في جرائم الحرب إلا ارتكبتها في قطاع غزة الذي يتعرض للتدمير الشامل منذ أكثر من 11 شهراً، ومع ذلك ما زالت بعيدة عن تحقيق أهدافها المعلنة، فلم تستطع استعادة رهائنها أحياء ولا قضت على الفصائل الفلسطينية المسلحة، ولا جلبت الأمن إلى المستوطنين في غلاف غزة أو المناطق الشمالية المتاخمة لحدود لبنان.
وسط هذا المأزق غير المسبوق، تتوالى الشواهد الحية عن تخبط إسرائيلي بلغ درجة الجنون. وكانت المجزرة الرهيبة التي ارتكبتها في مدرسة «التابعين» بمدينة غزة أحد عناوين انهيار غير معلن في تل أبيب، فتلك الجريمة صعقت العالم بحق، لأنها استهدفت أبرياء ينشدون الأمان في منطقة يعمها الرعب وكأنها قطعة من جحيم، بينما تستمر العمليات العسكرية تدور في حلقة مفرغة، قصف فاجتياح فانسحاب فعود على بدء، من مدينة إلى أخرى ومن حي إلى آخر، بينما تتوارى «أهداف الحرب بعيداً» كلما توهم الجيش الإسرائيلي أنه بصدد تحقيقها أو القبض عليها.
في الأيام الأخيرة، وفي ذروة توتر غير مسبوق في المنطقة ينذر باندلاع حرب شاملة تفتح جبهات أخرى من لبنان إلى إيران، تحركت الدبلوماسية وتوصلت إلى اتفاق ثلاثي بين قطر ومصر والولايات المتحدة يدعو إلى استئناف المفاوضات حول هدنة تسمح ببعض الهدوء وعودة الرهائن الإسرائيليين من غزة، وهي مبادرة كانت مطلوبة وضرورية لخفض التصعيد ولدرء مخاطر حرب لا يمكن لأحد أن يرسم حدودها لو اندلعت.
ورغم أن إسرائيل قالت إنها سترسل وفداً إلى جولة المفاوضات منتصف هذا الشهر، إلا أن انقسامها الداخلي ومأزقها العميق قد ينسف أي نجاح محتمل. وقبل أيام من الموعد، ها هو اليمين المتطرف، الذي استباح كل حرمات الشعب الفلسطيني، يهدد بالتصدي لأي اتفاق، لأنه سيكون هزيمة أمام الفلسطينيين، على حد وصف وزير المالية الإسرائيلي بتسلئيل سموتريتش، أما المتطرف الآخر وزير الأمن إيتمار بن غفير، فقد حرّض على ترك سكان غزة يموتون جوعاً، واعتبر أن أي اتفاق حول غزة سيكون استسلاماً للأمر الواقع وخسارة استراتيجية لن تعوض.
ورغم أن هذا القول موقف سياسي في سياق الانقسام الداخلي، فهو يعبّر عن حقيقة تؤمن بأن هذه الحرب الطويلة لن تخرج منها إسرائيل صاحبة اليد العليا ولن تعود كما كانت. وما يؤكد هذا الرأي، ما تضمنته رسالة وجهها ضباط كانوا في قطاع غزة إلى رئيس الأركان الإسرائيلي، وأوردتها «القناة 14» العبرية، قالوا فيها «نحن الذين أتينا من الميدان نعلم جيداً أن الوضع لا يزال بعيداً عن النصر».
عندما تكون أهداف أي حرب كالسراب مثلما هو الحال في قطاع غزة، تصبح عبثاً وانتحاراً بطيئاً لمن يصّر على إذكائها. وكذلك حال اليمين الإسرائيلي المتطرف الذي يعيش في عالم مفارق للواقع ولا يستوعب حجم التغيرات التي أصابت المنطقة والعالم منذ العدوان على غزة، والحل اليوم ليس في الحرب، بل في إنهائها بأسرع وقت ممكن لوقف سفك الدماء والحيلولة دون جر الإقليم كله إلى أتون جولة صراع مرعبة، لن تكون في صالح إسرائيل أيضاً، لأن شعوب هذه المنطقة تريد الاستقرار والتحرر من كل الكوابيس التي تعرقل تقدمها وازدهارها الآتي حتماً مهما تعاظمت التحديات والعراقيل.