: آخر تحديث

روح أيار 1968... من جامعات باريس إلى جامعات أميركا

21
21
17

تخلّد فرنسا خلال هذا الشهر الذكرى الـ56 لانتفاضة أيار (مايو) 1968. جريدة "لوموند" العريقة كانت قد أنجزت عدداً خاصاً بهذه الذكرى تحت عنوان "68... الأيام التي هزّت فرنسا". "لوموند" اعتبرت بشكل استفهامي، أن انتفاضة أيار (مايو) 1968 شكّلت هزّة للوعي الجماعي للفرنسيين، وأنها تعبير عن شباب فاقد لليوتوبيا والأمل، وكذلك هي أيضاً انتفاضة للأجراء من موظفين وعمال ضدّ الاستغلال وضدّ مجتمع مجمّد من قبل سلطة شاخت، كما أنها كانت كذلك طموحاً لإرضاء الاستمتاع في حياة يومية يغلب عليها اللون الرمادي، وشكّلت مطلباً ديموقراطياً لكي يتمكن كل مواطن؛ ليس فقط من التحدث، بل وبالأساس ضرورة الإستماع إليه. لقد كانت باختصار ثورة لا تريد أن تستولي على السلطة... بل كما قال المفكر والفيلسوف الفرنسي جان بول سارتر، كانت توسيعاً لمجال الممكنات. أحداث أيار (مايو) 1968 ما زالت تُعتبر ملهمة عدد كبير من التمردات عبر العالم. بدأت الأحداث بإضرابات عمالية استمرت منذ نهاية 1967 وحتى بداية 1968، وتمّت مواجهة الحركة العمالية بحزم وعنف من قبل أجهزة الدولة. وعندما كان أرباب العمل والأجهزة الحكومية يعتقدون أن الطبقة العمالية قد تمّ إخضاعها، دخل على الخط طلبة الجامعات الذين كانوا ينطلقون من منطلقات إيديولوجية وسياسية أممية. كان شارل ديغول يقول: "لقد خلصت الى استنتاج مفاده أن السياسة هي مسألة خطيرة جداً عندما تُترك للسياسيين". وكانت انتفاضة أيار (مايو) 1968 تجسيداً على الأرض لقناعة ديغول تلك... لم تنجح وصفة القمع مع الطلبة، وأدّى إغلاق جامعة باريس في الثالث من آذار (مارس) من السنة نفسها، إلى تأجيج الحركة الاحتجاجية التي تميزت بلجوء الطلبة إلى العنف في مواجهة قوات الأمن، من خلال نصب المتاريس ليلة 29 أيار (مايو)، وتمّ احتلال الحي اللاتيني، حيث استخدمت زجاجات المولوتوف، وبذلك أصبحت الحركة الطلابية في طليعة الحركة الاحتجاجية وعملياً قائدتها. فرضت أساليب الطلاب على قوات الأمن اللجوء إلى أقسى أشكال القمع، هذا القمع ولّد حالة من التضامن والتعاطف مع حركة الطلاب، حيث قرّرت النقابات العمالية الدخول في إضرابات، تحولت إلى لا محدودة، وتنظيم تظاهرات ومسيرات يومية، وفقدت القيادات النقابية سلطتها على قواعدها، وبذلك دخلت فرنسا حالة من العصيان المدني تدحرجت ككرة ثلج، وبدأت سلطة الدولة تتهاوى، إذ أصبحت كل القرارات التي تخصّ تموين باريس مثلاً، بيد القيادات العمالية، بل سيطرت حركة العمال والطلبة على مدينة نانت بكاملها... كانت فرنسا تسير إلى نقطة اللاعودة لولا وجود رجل بحكمة ودهاء وخبرة ديغول، الذي دعا إلى انتخابات برلمانية سابقة لأوانها، وبالتالي وقف الأحداث، حيث نُظّمت الانتخابات خلال شهر حزيران (يونيو) 1968 وعززت نتائجها موقع اليمين الجمهوري على حساب اليسار وبصفة خاصة الحزب الشيوعي الذي تحمّل جزءاً كبيراً من المسؤولية السياسية عن الأحداث. ديغول كان رجل دولة كبيراً، يملك كاريزما قوية واحتراماً وسط الفرنسيين على اختلاف توجّهاتهم، بالنظر إلى دوره الوطني في تحرير فرنسا من النازية. استطاع بخبرته وحكمته أن يمتص تداعيات أقوى حركة اجتماعية وسياسية شهدتها فرنسا بعد الحرب العالمية الثانية، لكنه بعد سنة واحدة من انتفاضة أيار (مايو) كان ديغول مجبراً على التنحّي عن موقع رئاسة الجمهورية، وذلك عندما ربط الاستمرار في مهامه بتصويت الفرنسيين بالموافقة على مجموعة من الإصلاحات التي اقترحها. خسر ديغول الاستفتاء فبادر إلى تقديم استقالة من سطرين قال فيهما: "أعلن توقفي عن ممارسة مهامي رئيساً للجمهورية. يصبح هذا القرار نافذاً عند ظهر اليوم: 29 نيسان (أبريل) 1969". ما نشهده هذه الأيام في الجامعات الأميركية من حركة طلابية متضامنة مع الفلسطينيين في غزة ليس سوى نموذج لما تركته حركة أيار (مايو) 1968 من تأثير، ربما قد يكون مداه أوسع في ظل عالم يتّسم باللايقين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد