: آخر تحديث

ربط المدرسة بسوق العمل... مأزق التكوين المهني والحلول الممكنة؟

2
3
3

أثبتت الحكومة السابقة في المغرب أنّها لم تكن جادّة وهي تلتزم أمام العاهل المغربي بإعداد خطة قابلة للتنفيذ تتعلق بالتكوين المهني، بما يسهّل إدماج خريجيه في سوق العمل في ظرف ثلاثة أسابيع...! فهذه الإلتزامات والسرعة، لا تعني في النهاية سوى التسرّع، وهو ما تسبّب بالكثير من الكوارث في قطاعات مختلفة. زد على ذلك، أنّ الحكومات السابقة لم تجد أي حرج وهي تخوض في قضايا لا تملك بخصوصها أية رؤية، بل كانت فقط مستعدة دائماً لتغيير المنطق الذي يؤطّر نظرتها لموضوع معيّن، وذلك من دون امتلاك القدرة على القيام بنقد ذاتي.

خرج التكوين المهني في ظل رئيس الحكومة الأسبق عبد الإله إبن كيران الثانية من وصاية وزارة التشغيل إلى حضن وزارة التربية الوطنية، وذلك بعد إعداد كتابة دولة خاصة بالتكوين المهني لدى وزير التربية الوطنية، وهو ما تمّ تصحيحه في الحكومة الحالية، حيث أنّ وزير الإدماج الاقتصادي والمقاولة الصغرى والتشغيل والكفاءات، يمارس الاختصاصات المسندة إلى السلطة الحكومية المكلفة بالتكوين المهني.

هذا التحوّل في الهندسة الحكومية يفترض أن يكون مسنوداً بتحول في سياسات التشغيل التي تظهر عبر نوعين كلاسيكيين مختلفين: الأول، يسمّى "من المدرسة إلى العمل" و الثاني، يسمّى "السياسات النشيطة للتشغيل". النوع الأول يدمج المدرسة في الحياة الاقتصادية منذ السنوات الأولى، بحيث يتمّ الانتقال بين مؤسسة المدرسة ومؤسسة المصنع بكثير من اليسر والسهولة، وفي هذا النموذج تنخرط المؤسسات الاقتصادية في العملية التعليمية من حيث طرق التكوين والبرامج. وفي هذا النظام يتمّ تتبع التلاميذ والطلاب منذ المرحلة الأساسية، ليتمّ توجيههم بشكل مستمر، إذ يتمّ تحديد الطلاب الذين سيكملون التعليم العام المتميز في الجانب النظري، وباقي الطلاب يكملون التعليم ذا الطابع المهني وهم الأكثرية، على أنّهم يحتفظون بإمكان الحصول على شهادات أكاديمية عليا، لأنّ المسارات غير مغلقة بشكل نهائي.

أما في النوع الثاني، وهو الذي يعتمده المغرب منذ سنوات طويلة، فيقوم على إعداد برامج للتشغيل تُخصّص لها حوافز مادية من أجل تمكين الخريجين من حاملي الشهادات من تجربة مهنية أولى عبر عقود تدريب في الشركات وعروض تكوين، وهو نموذج يتطلّب موارد مالية مهمّة، كما أنّ بعض المشغلين قد يستعملونه للتطبيع مع الهشاشة في سوق العمل بالنظر إلى الشروط التي تتضمنها عقود التدريب التي تتميز بالمرونة اللازمة.

من عيوب سياسات التشغيل وفقاً لهذا النموذج، أنّها تفتقد القدرة الإستباقية سواءً على معالجة اختلالات سوق العمل أو المشاكل التي تعرفها المدرسة، بحيث يتمّ وضع برامج لتصحيح اختلالات التكوين، وهو أمر في غالب الأحيان يبقى من دون جدوى، بل ان كثيراً من البرامج التي عرفتها بلادنا كانت مجرد استنساخ لبرامج سابقة مع تغيير أسمائها.

نقل قطاع التكوين المهني إلى قطاع التربية والتكوين في مرحلة سابقة، كان من المفروض أنّه يعني تبنّي المغرب اختيار نهج "من المدرسة إلى العمل" أي ربط مسارات التكوين منذ المرحلة الأساسية... لكن الواقع أنّه لم يكن، لا مع حكومة إبن كيران الثانية ولا مع حكومة العثماني، للهندسة الحكومية أي إرتباط بمضمون السياسات التي تصدر عن الحكومة.

هناك سرديات كلاسيكية تقول إنّ النمو يخلق الشغل، بحيث أنّ نقطة في معدل النمو تحدث ما بين 30 و 35 ألف فرصة عمل، وأنّه يجب ربط التعليم بسوق العمل... هذا الكلام لم يعد يملك القدرة التفسيرية الكاملة لواقع البطالة، ليس فقط على مستوى المغرب، بل أيضاً وأساساً على المستوى الدولي، إذ أنّ الدروس المستفادة من الثورة الصناعية الرابعة والصعود اللافت للروبوتات والطابعات ثلاثية البعد والذكاء الاصطناعي التوليدي، تؤكّد أننا يجب أن نربّي أبناءنا على أنّ المعرفة لا تنتهي؛ فما يحققه العلم اليوم من تطور خلال ساعات؛ كان يتطلّب قبل ذلك مئات السنوات، لذلك عليهم أن يفهموا أنّ طلب المعرفة مثل استهلاك الأوكسجين لا ينتهي سوى بالموت، وأنّه من الضروري إزالة ترسبات قيمة الشواهد العلمية كرمز لنهاية مسار التعليم.

الاقتصاد الجديد المبني على المعرفة يؤكّد لنا بالملموس أنّ النمو لا يعني بالضرورة التشغيل، فالمصانع التي كانت تعج بالعمال، أصبحت اليوم مكاناً للروبوتات والذكاء الاصطناعي وبإنتاجية أكثر، بل انّ المناصب الجديدة التي يحدثها الذكاء الاصطناعي تتطلّب شروطاً غاية في التعقيد، فلم تعد الصناعات الجديدة بحاجة إلى مساعدي تنفيذ ولو بدرجة مهندس، بل إلى مبدعين ومبرمجين وعلماء بكل ما تحمله الكلمة من معنى، وهو ما يفرض تحدّيات كبيرة وضغوطاً متواصلة على سوق الشغل على المستوى الدولي، ونظراً للتطور السريع للعلوم والتكنولوجيا فإنّه يصبح من المستحيل عملياً تحقيق شيء اسمه ربط التعليم بسوق العمل، بخاصة عندما تقال هذه العبارة بشكل إنشائي، فالتعليم يعطي المعارف العامة الأساسية التي تمنح للطلاب الكفايات اللازمة للتأقلم مع ما تحمله التكنولوجيا من جديد مع الإلتزام بالتكوين المستمر المواكب لتطور العلوم.

المغرب كغيره من بلدان المنطقة، يجب عليه أن يراهن على التعليم من دون تمييز بين التعليم العام النظري وبين التعليم المهني، وعليه أن يرصد موارد كافية لأسرة التعليم ولكل الوسائل البيداغوجية في المؤسسات التعليمية، وهو مُطالب بأن يرسم حدوداً للقطاع الخاص في اتجاه جعله مسألة اختيارية لدى الأسر وليس مهرباً من جحيم المدرسة العمومية، كما عليه أيضاً أن يواكب الدراسات والأبحاث العالمية عن المهن التي ستختفي في غضون سنوات قليلة، بينما ما زالت تلك الوظائف تشكّل حلماً لأطفالنا وأسرنا...


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد