هل ترى كان مفيداً الحديث أمس عن الحضانة الصينيّة؟ العقل التربوي العربي لا يلفت انتباهه ما لديه بين يديه، وتجذبه كالفراش الأضواء البعيدة. قال القلم: لعلّ أهل المناهج العربية لا تغريهم الظاهرات البعيدة، وتغويهم صيحات الموضات في الآفاق، لكنهم يمرّون على مآثر ميراثهم معرضين.
لم يسبق لأيّ ثورة تربوية أن أهملها أهلها وهمّشوها، بمثل المغالاة في الإقصاء، التي عاملوا بها المفاخر التربوية التي أهداها تاريخنا إلى القرون. لنأخذ الأمور واحداً واحداً. في الجاهلية، لم تكن للقبائل العربية حضانات ولا تمهيديّات ولا ابتدائيّات فصاعداً. لم تكن لديهم علوم تربوية، ولا خبراء بيداغوجيا، لكن أهل الحضر كانوا يرسلون صغارهم إلى البوادي المعروفة بالفصاحة، لتستقيم ألسنة أطفالهم، فيشبّوا وهم لا يلحنون. ما المانع من أن تكون الحضانات العربية بمثابة فصحاء البوادي، لا تسمع فيها غير الفصحى، فيدخل الصغير الصف الأول الابتدائي وكأنه الدكتور مصطفى جواد، يقول لمعلّمه: قل ولا تقل؟
تخيّل المناهج العربية أمامك تحاورها: أيتها الأستاذة الفاضلة، ماذا لو حملت وزارات التربية، هذه الأمانة في الحضانات، وصار صغار العرب يدخلون المدارس وهم سلامة عربيّتهم لا وجود لها إلاّ في الخيال العلمي؟ ألم يكن الله رافعاً عنك وزر تعثر العرب في تضاريس النحو والصرف الكأداء؟ ألا تعلمين يا سيدتي كم سيكون لك من جمائل على الإعلام السمعي البصري، وعلى شركات الإنتاج الهاربة إلى العامّية لإنقاذ الممثلين من العثرات؟
هل نسينا الأوامر الرياضية قبل خمسة عشر قرناً: «علّموهم الرماية والسباحة والفروسية»؟ لو كان في هذه الأمة أربعمئة مليون من أهل الرماية والفروسية، هل كان أحد يجرؤ على أن يستهين بحصاة عربية على الرصيف؟ المؤسف هو أن الصفوة المعنية بالفكر والثقافة والدراسات التربوية والاجتماعية، لم تأخذ الأوامر الحيوية على محمل الجد. تخيّل من يرى مجرّد نصيحة في مقولة هي أعظم ثورة مكثفة في كلمات: «لا تعلّموا أبناءكم ما عُلّمتم، فإنهم خلقوا لزمان غير زمانكم». تخيّل أن يقول لك كتاب تعاليمك: «قُلْ سِيرُوا فِي الأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ» (العنكبوت 20)، الخلق مفعول به منصوب، تحفيزاً على طرح القضايا البيولوجية قبل ألف وخمسمئة عام!!
لزوم ما يلزم: النتيجة الإشكالية: القوة في متناول العقل العربي، المشكلة في عدم القدرة على استخدامها.