: آخر تحديث

المواسم وأهمية الجماعة

8
8
8

جاءت الشريعة السمحة بوسائل كثيرة لترسيخِ الأخلاق الحميدة، وتثبيتِ الأعمال البالغة الأهمية، ومن تلك الوسائل تكثيرُ مظاهرِ العناية بالعبادةِ الجامعة لخصال الخير، وتنويعُ الأدلة والشواهدِ الدالَّة على أهميتها، وذلك بأن يكون الحث عليها وارداً في القرآن الكريم والسنة المطهرة، ثابتاً بالإجماع والمعقول، ولا يُكتفى بذلك بل تكون هناك شعائر تَتَجَسَّد فيها هذه العبادةُ، ومن العبادات المعتنى بها هكذا: الاجتماع والائتلاف، فقد كثرت النصوص الدالة على أهمية لزوم جماعة المسلمين المتمثلةِ في وليِّ الأمر ورعيَّتِه، ولزومُ الجماعة مأمور به في جميع الأحوال، وهو معقول يرشد العقل السليم إلى ما ينطوي عليه من المنافع، وجرت العادة بترتب المصالح الدينية والدنيوية عليه، كما جرت بنشوءِ المفاسد والآفات عن الاستهانة به، ولم يقتصر الإرشاد إلى أهميته على تلك الدلائل رغم كفايتها، بل كان له مزيد تقرير بإظهاره ضمنَ بعض العبادات، فنرى بعض الشعائر الدينية تُجَسِّدُ الاجتماع والوحدة، وهناك نموذج اجتماع يتكرر مراتٍ في اليوم والليلة، وهو حضور صلاة الجماعة، وهناك مواسم سنويَّة، يتجلى فيها اهتمام الشرع بالجماعة، ولي مع إبراز المواسم لأهمية الجماعة وقفات:

الأولى: المواسم الشرعية تحمل مضامينَ تربويةً لا تحصى، ولا يقتصر فضلها على الفوائد الخاصة التي ينالها فيها كل مستثمرٍ لها، بل تتجلى فيها دروس عظيمة لها دلالات عميقة، لا ينبغي أن نغفل عنها، ومن تلك الدروس إعلاء شأن الجماعة، والتأكيد على أهمية الاجتماع ومركزيتِه، وعنايةُ الشرع الحنيف بالاجتماع في المواسم لا تخطئها العين؛ فمع أن الصوم والفطر والأضحى مرتبطة برؤية الأهِلَّة، وذلك أمر محسوس لو ترك أمره إلى الناس لتعامل معه كل منهم حسب رؤيته، إلا أن الشرع لم يسوّغ ذلك، بل ربطها بالجماعة، فَجَعَل المعتبرَ في ذلك ما ثبت عند القاضي، كما يدل عليه حديث أَبِي هُرَيْرَةَ رضي الله تعالى عنه، أَنَّ النَّبِيَّ صَلى الله عَليه وسَلم قَالَ: (الصَّوْمُ يَوْمَ تَصُومُونَ، وَالفِطْرُ يَوْمَ تُفْطِرُونَ، وَالأَضْحَى يَوْمَ تُضَحُّونَ) أخرجه الترمذي، وهو دليل على أنه لا مجال للانفراد بإثبات هذه الشعائر، وقيام الليل في غير رمضان سنته أن يكون في البيوت، وسنته في رمضان أن يقوم الناس مع الإمام حتى ينصرف، والحج له إمام ينيبه ولي الأمر فيقيمه للناس، وكل هذا إظهار لأهمية الجماعة، فمن علامات العمل الفاضل أن يكون له مزيد اختصاص بالزمان والمكان الفاضلين، وكلٌّ من موسم الصوم والحج معمور بعبادة يتجلى فيها الانضباط والالتزام بالواجب، وفيها تربية للمسلم على النظام وإمساك نفسه عما ينهى عنه، ولذلك أثر إيجابي على سلوكه في بقية العام، والانضباطُ مما يعين الإنسانَ على أداء حقوق العباد التي يتوقف الاجتماع المنشودُ على مراعاتها.

الثانية: من لطف الله تعالى بعباده أن شرع لهم الجماعة، وربط مصالحهم الدينية والدنيوية بها، والتيسير الحاصل بذلك راجع إلى مصلحة العباد، وإلا فقدرة الله تعالى تسع أن يخاطب كلَّ واحد منهم بأوامرَ ونواهٍ تختصُّ به، وأن يرسل بذلك رسلاً على حسب عدد الخلق، لكن عمّم الخطابَ لمصالح العباد، فلا يَخْفَى ما يستفيدُه الفرد من اجتماعه مع غيره في شؤون دينه، فقد لا يفهم دليلاً شرعياً ويستفيد من معية من يُفهمه، وقد يتكاسل فيرى مشمِّراً في العمل فيقتدي به، وقد يتسلط الشك على المنفرد بصلاته، فيعاني من ضبط ما صلَّى وما بقي له، لكنه إذا صلى في الجماعة أمن من ذلك؛ إذ لو حدث سهوٌ في صلاة الإمام لكان في الجماعة عون له على تلافيه، فينصرف كل منهم عن صلاته مرتاحاً مطمئنّاً، وأما فوائد الجماعة في المعاش فأظهر من أن تحتاج إلى دليل، فبالجماعة تكون عمارة الأرض وإقامة الحضارات، والذود عن الحمى، وغير ذلك من جوالب المصلحة ودوافع المفسدة، وبالجماعة يتم المحافظة على ما انتجزَ من ذلك.

الثالثة: يغلط الزاهد في الجماعة، المتعطش إلى الفرقة، فيظن أن هناك منافعَ تُجنى من الشذوذ عن الجماعة ومفارقة جماعة المسلمين وإمامهم، فمما يمكن أن يَفرحوا به ما يحصل لبعضهم من لَفْتِ الأنظارِ إليه وتكرر ذكر اسمه، وتبعية بعض المغفَّلين له، والفوضى التي يسرح فيها من تشرَّد منهم ويسميها باسم الحرّية، ونحو ذلك مما يفتنون به، ويزعمون أن أهل الجماعة غافلون عن تلك المنافع، وحاشا أن يكون شيء من ذلك منفعة، فالشذوذ عن الجماعة شرٌّ محض، وما يظنونه فوائد إنما هي أوهام لا حقيقة لها، والنشوة التي يجدها أحدهم جرَّاء ذلك بمثابة النشوة التي تعتري اللصَّ إذا عثر من السرقة على مبلغ كبير، أو النشوة التي يجدها متعاطي المسكر والمخدر، ومعلوم أن العاقل المعافى يستحيي من أن يفكر في ذلك أصلاً ويعرف أن هذه التصرفات الشائنة يدفع فاعلها ضريبتها في دينه وصحته وعقله وماله وعرضه.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد