: آخر تحديث

الدبلوماسية الفرنسية والألعاب الأولمبية

9
9
9

يطرح تراجع مستوى أداء الدبلوماسية الفرنسية وقلة تأثيرها على المستوى العالمي وفي مناطق نفوذها التقليدية، تحديات كبرى على الطبقة السياسية وصناع القرار في باريس، فقد بدأت فرنسا تفقد خلال السنوات الماضية الكثير من أوراقها في الملفات الجيوسياسية التي لها صلة مباشرة بمصالحها الحيوية؛ ويعتقد المراقبون للشأن الفرنسي أن باريس تعمل على استثمار ما بقي لها من عناصر القوة الناعمة من أجل استعادة قدرتها على توجيه مسار الأحداث في أوروبا وإفريقيا، وستحاول توظيف الألعاب الأولمبية التي ستحتضنها باريس في الفترة ما بين 26 يوليو/ تموز و11 أغسطس/ آب 2024، لجعل فرنسا محط أنظار العالم ولاستقطاب عدد أكبر من الزوار ولفت الانتباه إلى ما ترمز إليه الجمهورية الفرنسية من قيم كونية تتصل بمبادئ الحداثة والتنوير.

وتشير الدراسات الجيوسياسية الحديثة في هذا السياق، إلى أن النزعة الأولمبية العالمية تمثل رهاناً للسلطة والقوة استطاع أن يترسّخ مع مرور الزمن، نتيجة تزايد عدد الدول المشاركة في الألعاب الأولمبية، وكثرة الفروع الرياضية المُدرجة في هذا الحدث الرياضي الكوني الذي يجعل كل وسائل الإعلام الدولية تسهم في الترويج له، وبخاصة أن الرياضة أضحت تشكِّل بداية من القرن العشرين فاعلاً أساسياً على مستوى العلاقات الدولية، وهي فضلاً عن ذلك أداة استراتيجية في خدمة قوة وهيبة الدول؛ وستحاول باريس خلال هذا الحدث الرياضي العالمي بامتياز، أن تستغل حضور الإعلام العالمي لإعادة قليل من البريق إلى صورتها التي أصبحت باهتة بسبب ضعف كفاءة النخبة السياسية الحاكمة.

ويعود هذا الدور الذي تلعبه الرياضة الأولمبية في العلاقات الدولية إلى تحوّلها في المرحلة الراهنة إلى موجّه رمزي للطاقة العدوانية للدول نحو «معارك سلمية» يكون فيها الانتصار والهزيمة في ساحة الملاعب بعيداً عن القوة المادية المدمّرة؛ وتستطيع من خلالها منظمات ومؤسسات تحقيق منافع اقتصادية وإعلامية، ولا يسمح للدول بتحقيق غاياتها الجيوسياسية إلا بالقدر الذي يخدم مصالح القائمين على رعاية وتنظيم الألعاب الأولمبية، كما يمكن من خلالها للجنة الدولية الأولمبية أن تقوم باستبعاد الدول التي لا تخدم مصالح كبار مموليها ورعاتها من الشركات والمنظمات المشكّلة للأوليغارشية العالمية التي تملك سلطة عابرة للأمم والدول.

ونستطيع القول إن حدث تنظيم أولمبياد 2024 في باريس، يأتي في مرحلة شديدة الحساسية بالنسبة للسياسة الخارجية الفرنسية، تتميّز بفقدان فرنسا للعديد من عناصر قوتها الدبلوماسية، وهذا ما دفع غزافيي درينكور السفير الفرنسي السابق في ماليزيا والجزائر، إلى التصريح بأن بلاده أضاعت الكثير من مصداقيتها الدبلوماسية، وقال إن الدبلوماسية الفرنسية المعاصرة هي ميراث تم الحصول عليه من الحرب العالمية الثانية بقيادة الجنرال ديغول سنة 1945، الذي استطاع أن يجعل حلفاءه الغربيين يعتقدون أن فرنسا تشكل جزءاً من الدول المنتصرة وتمكنت بناءً على ذلك من توقيع الهدنة مع ألمانيا برفقة المنتصرين، وأصبحت عضواً دائماً في مجلس الأمن وحاصلة على حق الفيتو، وهذه المرحلة هي التي تؤرِّخ لميلاد الدبلوماسية الفرنسية الراهنة.

ويضيف الدبلوماسي الفرنسي في الحوار الذي أجري معه، أن دبلوماسياً إنجليزياً قديماً قدم له ملاحظة مهمة في لقاء جمع بينهما، أكد له من خلالها أن الفرنسيين جيدون جداً في إطلاق الأفكار والقيام بأفعال وضربات مفاجئة وغير مرئية في أغلب الأحيان، ولكن من دون التوصل إلى تجسيد ما يسعون إلى تحقيقه، على خلاف الإنجليز الذين قد يكونون أقل إبداعاً لأنهم مضطرون إلى التوصل إلى توافقات في اجتماعاتهم، لأن دبلوماسيتهم تعتبر دائرية وجماعية وتتمكن في الغالب من التقدم ومن تحقيق أهدافها.

ويتجلى تخبط الدبلوماسية الفرنسية في العديد من الملفات، فعلى مستوى الحرب في أوكرانيا كانت باريس من أكثر الدول الغربية حرصاً على عدم تصعيد المواجهة مع روسيا، لكنها انتقلت بقدرة قادر من حمامة للسلام إلى صقر من صقور المواجهة، عندما أعلن رئيسها مؤخراً أن كل الخيارات العسكرية ضد روسيا تبقى مفتوحة بما في ذلك إرسال قوات إلى أرض المعركة، الأمر الذي أثار نقاشاً واعتراضاً لدى الكثير من حلفاء فرنسا وداخل الطبقة السياسية الفرنسية.

ويبدو – أيضاً- حضور الدبلوماسية الفرنسية في صراع الشرق الأوسط متأرجحاً، حيث لا تعرف باريس جيداً على أي رجل ستقف بين دفاعها عن حق إسرائيل في «الدفاع عن نفسها»، وحق الشعب الفلسطيني في العيش بكرامة فوق أرضه، كما أن تحالفها ودفاعها المستميت عن أرمينيا جعلها تضحي بعلاقاتها مع تركيا وأذربيجان؛ وإضافة إلى ذلك فإن اختلاف التصورات بين مؤسسة الرئاسة وكبار المسؤولين في وزارة الخارجية، بشأن العلاقات الفرنسية مع دول المغرب العربي يجعل خطواتها متثاقلة وغير فعّالة وبالتالي عاجزة عن المحافظة على المصالح الحيوية لفرنسا في إفريقيا.

ويتساءل المراقبون في السياق نفسه، عما إذا كانت أولمبياد باريس 2024 قادرة على أن تمثل فرصة كافية لإعادة الحيوية للدبلوماسية الفرنسية التي تأثرت بشكل لافت بأزمات فرنسا الداخلية وبمهاترات قادة أحزابها، وبتراجع قوتها الاقتصادية واضمحلال قوتها الناعمة في العديد من مناطق العالم، لاسيما في مستعمراتها السابقة.

 


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد