: آخر تحديث

تعزيز مهارات النقد الإعلامي في مواجهة إعلام الردح

7
8
6

في الستينيات الميلادية كان ما يسمى بالمد القومي يهاجم كل من يعارضه أو يقف في وجه مشاريعه التوسعية، وما أن يختلف مع أحد حتى يطلق عليه إذاعة (صوت العرب) مستخدمًا صوتها الأشهر آنذاك «أحمد سعيد»، ومن أولئك المعارضين الذين عانوا من هذه الإذاعة الرئيس العراقي عبدالكريم قاسم الذي بسبب معارضته لما يُسمى وقتها بمشروع الوحدة العربية؛ كانت تروج ضده التهم بأنه يقوم بسجن المعارضين وتعذيبهم؛ فقام العراقيون بتسريب اسمين لصالح إذاعة (صوت العرب) كمعارضين اعتقلتهم وعذبتهم حكومة عبدالكريم قاسم، وهما «حسنة ملص وعباس بيزة»، فما كان من أحمد سعيد إلا أن تبنى القضية وصار يصرخ في إذاعته ليلًا نهارًا: «كلنا حسنة ملص، كلنا المناضلة حسنة من المحيط إلى الخليج..»، «كلنا خلفك يا عباس.. كلنا عباس بيزة»، فيما العراقيون يسخرون من سذاجة «صوت العرب»؛ فحسنة ملص ليست إلا (بائعة هوى) مشهورة في بغداد.. وعباس بيزة ليس إلا مساعدها.. فشلت تلك الوحدة وفشل المشروع التوسعي وبقي المقلب العراقي يلاحق «أحمد سعيد» إلى اليوم.

هذا النوع من الممارسة الإعلامية سهل وساذج ويمكن توجيهه ومواجهته والتلاعب به.. وكثيرا ما انتهى ممارسوه إلى مواقف أسوأ من هذا المقلب، ونهايات حزينة طالتهم وطالت أتباعهم وجماهيرهم.

لكن ما يجري اليوم ومع الأحداث التي تحيط بنا أن «وسائل الردح» أصبحت حديثة ومتعددة وتنشط في كل الاتجاهات، حيث وللأسف ازدادت كمية المنصات الساذجة التي تتلقف الكثير من الهراء وتعيد اجتراره وتصديره، وليس من المنطقي أن نتوقع انتهاء هذه السلوكيات وتوبة أصحابها لسبب بسيط أن المستنقعات التي تصدرهم ما زالت موجودة وتحيط بنا وتعد بالمزيد.

والجمهور بطبعه يتعطش للمعلومات الجذابة والمثيرة حتى لو لم يصدقها، إذ غالبًا ما تكون الأخبار المضللة والشائعات أكثر قدرة على جذب المتلقي مقارنةً بالأخبار الحقيقية والموثقة، والتي في الغالب تكون أقل إثارة. وهذا يؤدي إلى دورة خطيرة من الإعلام السطحي، حيث يتم تقديم المحتوى «الجذاب»، بغض النظر عن صحته، وبالتالي، يتم بالتراكم والتكرار تضليل الرأي العام وإبعاده عن الحقيقة وصناعة واقع مزيف ومحبط.

لذلك فإن مواجهة الإعلام السطحي والظواهر الصوتية المضللة تتطلب جهودًا أعمق، ليس ضد تلك المستنقعات فحسب؛ بل باتجاه تطوير وعي نقدي لدى المتلقي تجاه ما يستهلكه من معلومات وتعزيز قدرته على التمييز بين الحقيقة والزيف وعلى فهم وتحليل الرسائل الإعلامية والمشاركة في التصدي لها.

ولدينا مثال ناجح وهو «المغرد السعودي» الذي تفوق مؤخرًا في مواجهة الكثير من الحملات الخارجية وأصبح قوة في الردع والتأثير لا يمكن تجاهلها في أي منصة كانت. وسواء كانت مقصودة أم اجتهادًا، فإن المغرد السعودي نجح في مسارين: الأول في تعرية المصادر والمنصات المعادية، والثاني في توفير محتوى مضاد لرسائل تلك المنابر ومروجيها.

في الأولى، تجاوز المغردون السعوديون الرد على المعلومة المضللة إلى تعرية مصدرها وكشف أجندته الحقيقية عبر تتبع خطها الإخباري المعادي لضرب حيادها وكشف حقيقة القائمين عليها وتوجهاتهم وأجنداتهم.

في المسار الثاني، قام المغردون السعوديون بنشر محتوى مضاد للرسائل المضللة والسلبية المعتادة ضد بلدهم، مثل الاعتزاز بهويتهم وفخرهم مثلًا بأصولهم البدوية حتى باتت كلمة «بدو» مصدر فخر واعتزاز وليست تهمة يجب نفيها، وتراجع استخدامها مؤخراً.

ولأن المواجهة أصبحت شاملة وجنودها مواطنون/ مغردون، فإن دعم هذه القوة الإعلامية الوطنية الجديدة أصبح ضرورة ملحة، خصوصًا مع طبيعة التشكيك بمصداقية مؤسسات الإعلام الرسمية وطبيعة عملها. وذلك عبر دعم وتعزيز مهارات النقد الإعلامي والتحقق من المعلومات لدى المتلقي/ المغرد السعودي، وألا يقتصر الأمر على مجرد الاهتمام بتوفير المحتوى الإعلامي، بل يمتد إلى تطوير وتعزيز ثقافة التشكيك البناء والتحليل النقدي للمعلومات، بما يضمن بناء مجتمع قادر على التمييز بين الحقيقة والتزييف، وبين الدعاية والتقارير الموضوعية، ولضمان أن يكون الإعلام مصدرًا للتنوير والتقدم، وليس وسيلة للتضليل والانقسام، ولإعطاء الفرصة لكل مواطن بالمساهمة في مكافحة الإعلام السطحي ومواجهة الظواهر الصوتية المضللة، والعمل نحو مجتمع أكثر استنارة وتماسكًا، صعب التوجيه والاختراق.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد