لم يعد هناك أي مجال للشك في مقولة إن الاستقرار ركن رئيسي وعامل ضروري ومحفّز لتحقيق التنمية في الميادين كافة، وأنصع تجارب التنمية حدثت وتحدث في مجلس التعاون لدول الخليج العربي، ولا نعني هنا التنمية الاقتصادية فحسب، وإنما التنمية البشرية والإنسانية. وهذا يعود إلى الاستقرار في أنظمة الحكم، فلا أحزاب تتناحر للوصول إلى السلطة وترفع شعارات المساواة والعدالة والازدهار وتحجم عن تطبيقها، ولا فوضى الانتماءات السياسية المدّعية صلاح الشعب والأمة.
وهذا يقودنا إلى طرح أسئلة بشأن أهمية الأحزاب في العالم العربي، ودورها في ملامح المشهد الذي نراه، باستثناء دول مجلس التعاون. هل انبثقت الأحزاب من رحم الشعب أم أنها هبطت عليه في المظلات والمناطيد؟ وهل الشعب العربي الخارج لتوه من قبضة الاستعمار، والحاصل حديثاً على استقلاله، كان متأهباً للانخراط في تلك الأحزاب؟ وهل الأحزاب عملت على تأهيله وتوعيته أم أنها قفزت عن مشاكله وهمومه ومعاناته وانشغلت في التنظير العقيم بين شلة من المتعلمين والمثقفين، الذين درسوا في الخارج؟ خاصة أولئك الشباب الصغار الذين عادوا من باريس وموسكو وبريطانيا، وأسسوا أحزاباً تستند إلى نظريات معقدة، مثل الحزب الشيوعي، وحزب البعث العربي الاشتراكي، وتنظيم الإخوان المسلمين، وجميعهم، وضع نصب عينيه التحرر من الاستعمار وتحقيق العدالة، وهي مبادئ جميلة وجيدة، لكنها كانت محمولة على فلسفات وجودية واقتصادية وسلفية دينية، واجهت الشعوب التي تعاني من درجة كبيرة في الأمية صعوبة في هضمها وفهمها والاقتناع بها، ولهذا انحصرت في طبقات محددة، ثم انحسرت تدريجياً بسبب الصراعات والخلافات، وها نحن نراها اليوم، غارقة في أزماتها، لم تحقق ما تصبو إليه من مبادئ وقيم، إن كانت دنيوية أو دينية، وظل قسم كبير من الدول العربية يغط في سبات عميق، أو يعاني من عدم الاستقرار وانعدام الأمن.
ويشير بعض المفكرين إلى أن أنظمة «الجمهوريات الملكية» ساهمت في تأخير التنمية، ونشر الوعي بين الناس، على مساحات الدولة، وإذا ما عثرنا على ملامح ازدهار وتنمية، فنجدها في المدن الرئيسية، أما الأرياف والمناطق النائية، فظلت تعاني من التخلّف المدني والحضاري حتى يومنا هذا. ولهذا أصبحت بيئات صالحة للتنظيمات الإرهابية التي تسترت بالدين، واستقطبت السكان الفقراء وأغرتهم بالمال والسلطة، وساهموا، بعلم أو من دون علم، بتدمير البنية التحتية للدول، بل ساهموا في هدم المؤسسات الرسمية. وهذا ما فعلته التنظيمات التي قادت ما يسمى «الربيع العربي» حين قدمت نسخة مشوهة من الدين الإسلامي، حاربت بها الأنظمة الاشتراكية والليبرالية والشعبية والجماهيرية، ونشرت الفوضى في مفاصل المجتمع، حتى أصبح في حاجة إلى إعادة إعمار، مادي وبشري.
ولو نظرنا إلى الأحزاب الرئيسية التي نشأت في بداية القرن العشرين، سنجد أن شابين في بداية العشرينات من عمريهما هما اللذان أسّسا أكبر حزبين في العالم العربي، وهذا العمر الزمني كان سبباً وجيهاً لاتهامهما في ولاءاتهما، ووصل الأمر إلى اتهامهما بالعمالة. فحين أسس حسن البنا جماعة الإخوان المسلمين عام 1928، وأصبح مرشدها العام الأول، كان الهدف اجتماعياً خيرياً، لكنه سرعان ما أصبح شمولياً وأصبح حسن البنا يرى الإسلام على أنه أيديولوجية، وهو «دين ودولة ووطن وجنسية وروحانية وعمل ومصحف وسيف»، ورفض مفهوم الوطنية والقومية العربية، وأيّد إقامة الخلافة الإسلامية، ولهذا اصطدم التنظيم بالزعيم جمال عبد الناصر، الذي حظر عمله وأقفل مكاتبه. ويعدّ هذا التنظيم الأب الشرعي لتنظيمات أخرى مثل «القاعدة» و«داعش» و«جبهة النصرة»، التي أعادت العديد من الدول العربية خمسين عاماً إلى الوراء، وصارت التنمية حلماً صعباً.
أما بالنسبة لحزب البعث العربي الاشتراكي، فقد أسسه الشاب ميشيل عفلق بعد عودته من باريس عام 1932، وكان يؤمن بالشيوعية في بداية الأمر، لكنه ما لبث أن تحول إلى القومية والاشتراكية وأسس في عام 1940 حركة الإحياء العربي، التي سُميت فيما بعد بحركة البعث العربي، ثم حزب البعث العربي الاشتراكي بعد سنوات قليلة، ونجح هذا الحزب في الوصول إلى السلطة في سوريا والعراق، لكن انشقاقاً حصل بين زعماء الدولتين واستمر الخلاف حتى رحيل صدام حسين، وساهم فرعا الحزب بطريقة أو بأخرى في زعزعة الأمن المجتمعي في البلدين.
أما الحزب الشيوعي العربي فقد تأسس بعد انتصار الثورة البلشفية في روسيا، وقيام الاتحاد السوفييتي، وتم تأسيس فروع في مختلف الدول العربية، وحمل شعارات شبيهة بشعارات حزب البعث وتنظيم الإخوان المسلمين، إلا أن الشيوعية آمنت بالأممية وحاربت القومية، لهذا حدثت انشقاقات كثيرة في صفوفها. والطريف أن الحزب الشيوعي الفلسطيني كان يضم يهوداً، وهؤلاء كانوا موزّعين بين تحقيق الاشتراكية ومبادئ الحركة الصهيونية، ففشل التحالف في مهده.
لقد تصارعت الأحزاب العربية فيما بينها بشكل دموي وليس على الصعيد الفكري فحسب، فقد تصارعت الاشتراكية والبعثية مع الإخوان المسلمين، الذين تصارعوا بدورهم مع القومية، والشيوعيون اختلفوا مع الجميع.. المشكلة ليست في الاختلاف وإنما في إدارة الخلاف الذي عمل على مصادرة الآخر، ولم يأت نظام يصهر هؤلاء في بوتقة واحدة وبشكل ديمقراطي فعلي، بحيث يكون القرار للأغلبية.