لم تكن المهمة عسيرة بالنسبة إلى الدول التي قدّمت إحاطات قانونية- سياسية أمام محكمة العدل الدولية كي تتمكن من إعطاء رأي استشاري في شأن الاحتلال الإسرائيلي للأراضي الفلسطينية. ولن تكون مهمة قضاة المحكمة صعبة لأسباب كثيرة، أهمها أن القوانين الدولية المعتمدة وقرارات مجلس الأمن والجمعية العامة للأمم المتحدة لا تعترف بشرعيةٍ أو مشروعيةٍ لأي احتلال على الإطلاق.
لكن المحكمة، كما جرى التذكير مراراً، لا تملك قوة تنفيذية لفرض القوانين، وإنما تملك أن تحدّد للدول ما هو عادل وجائز، إذا سُئلت، ويبقى على الدول -خصوصاً الكبرى منها- أن تطبق القوانين التي لا تمانع في حلّ الصراعات والنزاعات بـ«تسويات» يفترض بل ينبغي أن تكون «عادلة»، وإلّا فإن الحلول ستفشل والصراعات ستستمر.
في الإحاطات التي استمعت إليها المحكمة، على مدى أسبوع، كان هناك إجماع بنسبة تفوق التسعين في المئة على الموقف القانوني المبدئي الرافض للاحتلال الإسرائيلي، وإجماع آخر مماثل على استنتاجات سياسية متقاربة وغير متناقضة في الجوهر، تبدأ بملاحظة أن تحقيق العدالة للشعب الفلسطيني تأخّر جداً أو تعطّل أو جرى العبث به لأجندات معلنة أم مضمرة، رغم أن ثمة تسوية تمّ التعاقد عليها بين منظمة التحرير الفلسطينية وإسرائيل ووُثّقت دولياً (اتفاق أوسلو) وكان يُفترض أن تفضي -بالتفاوض- إلى إنشاء «دولة فلسطينية»، وحدّد لذلك موعد هو العام 1999، أي قبل ربع قرن. هذه التسوية، بنصّها والمناخ السياسي الذي رافق ولادتَها عام 1993، شجّعت العرب لاحقاً على الاستناد إليها لاعتماد «السلام خياراً استراتيجياً» أكّدته القمم العربية، خصوصاً قمة عمّان (2001)، ثم دُعم بالمبادرة العربية في قمة بيروت (2002).
تعدّدت الأسباب التي أدّت إلى زعزعة تلك الاتفاقات/ التسوية، ومنها: أولاً، الفهم (والتفاهم) الإسرائيلي الأميركي للمؤدّى النهائي للمفاوضات وكيفية تطبيقه، مما انعكس سلباً على إجراءات «بناء الثقة» والاتفاقات التمهيدية لإزالة الاحتلال على طريق «الدولة». ومنها ثانياً، شعور الجانب الفلسطيني بأن حقوقه الأساسية (تقرير المصير، وضع القدس، الاستقلال والسيادة، العودة أو التعويض، المياه وسائر الموارد.. إلخ) متنازع عليها جميعاً وخاضعة لموجبات غير محدّدة تحت عنوان «أمن إسرائيل»، وبالتالي لم تأخذ الحلول المقترحة أمن الفلسطينيين في الاعتبار، بل تبقيهم «تحت الاحتلال»، أي لا «دولة» ولا سلام.
يُضاف إلى ذلك، وهو الأهمّ، أن الإدارات الأميركية المتعاقبة أخذت من العرب «الخيار السلمي الاستراتيجي» ولم تتبنَّ «المبادرة العربية». ومع هذه الاختلالات وبمرور الوقت تحوّلت «التسوية» ملفاً مفتوحاً لطموحات «محور الممانعة» الإيراني و«محور» اليمين الإسرائيلي المتطرّف، وما الحدث الراهن سوى نتيجة للمواجهة بينهما. مضى أكثر من عقدَين على مطالبة المجتمع الدولي بتطبيق «حلّ الدولتين»، ولطالما ذكّر به الفلسطينيون والعرب ومعظم دول العالم، وكان الجميع ينتظر «مبادرة» من الولايات المتحدة بالتفاهم مع إسرائيل، لكن الأخيرة اتخذت إجراءات وسنّت تشريعات أظهرت رفضاً لهذا الخيار، إلى أن أعادت الحرب على غزّة طرحه حتى من جانب واشنطن وعواصم غربية، فضلاً عن تأييد من الصين وروسيا.
وجاء بدء محكمة لاهاي النظر في طلب رأيها الاستشاري في الوقت المناسب، لأنها سترجّح ضرورة العمل على إنهاء الاحتلال، ولو من دون التدخل في التفاصيل. وتريد إسرائيل التفاوض المباشر مع الفلسطينيين على مسألة «الدولة»، وهذا يتطلّب أولاً وقبل كل شيء أن يكون مبدأ «التعايش» بين الطرفين محسوماً، فـ«قبول الآخر» هو ما يمهّد لتبادل الاحترام للأمن والسلام والخصوصيات، بدلاً من نفي «وجود شعب فلسطيني» أو التخطيط لطرده وتهجيره.