: آخر تحديث

الصحافة تحت الطلب

11
14
13

في قلب كل مدينة كبيرة حيث يسمع إيقاع نبضها من مسافة أميال، ستجد زاوية لماضٍ جميل ما زال يخفق بالحياة، مكتبة عتيقة، مليئة بالرفوف التي تكدست بالكتب التي يختلط فيها الجديد بالعتيق. في مساراتها الضيقة، تلك التي كانت تزدحم بالقراء واقفين أمام رفوفها النحيلة، تبدو خالية اليوم مملوءة بصدى ماضيها القديم.

كما انحسر رواد المكتبة، انحسرت الصحف التي كانت تعج بها المكتبات والدكاكين على الأرصفة، مشيرة إلى المد التقني الذي تشعب في نواحي الحياة جميعها. عملت الصحف طويلاً باعتبارها مصفاة لأخبار العالم، بجهد كبير من خبراء يختزلون العالم من حولنا ويعيدون تصويره كما هو أو كما يرونه على أقل تقدير، لكننا نرى اليوم مصفاة جديدة تتكون شيئاً فشيئاً.

عملت غوغل هي ومثيلاتها من محركات البحث مدة طويلة لتختزل مادة الإنترنت بكفاءة عالية، إنما مع الوقت، أصبحت محركات البحث عتيقة مثل المكتبات التي تندس في المدن الكبيرة في زحمة التحول الرقمي السريع، مع ثورة الذكاء الاصطناعي الأخيرة، ظهرت محركات بحث تفاعلية، تصوغ نماذجها اللغوية لك الأخبار عند الطلب عن أي موضوع تبحث عنه.

القدرة التي تمتلكها محركات البحث الجديدة ليست مفاجئة لأحد، بل تكاد تكون متوقعة، إنما التوجه العام وما سيؤدي إليه يبدو مفاجئاً كما لو كانت لوحة ترسم أمامك. التسونامي الرقمي الذي شكل شواطئنا، وابتلع صناعات بأكملها على ضفافه، يشكل لنا اليوم مفهوماً جديداً يمكن أن نصفه بالصحافة تحت الطلب.

على عكس محركات البحث التي تعرض لك الأخبار على رفوفها الإلكترونية في صيغة روابط مرتبة في قوائم أنيقة، جاءت محركات البحث الجديدة بصياغة المحتوى لك حسب المفردات التي تريدها. كما تعمل الصحف عادة باستقبال الأخبار من وكالات الأنباء، تستقبل محركات البحث الجديدة الأخبار من كل مكان لتحررها حسب الطلب، أصبح الاتجاه العام واضحاً، محركات البحث المدعومة بالذكاء الاصطناعي هي وجه الصحافة الجديد.

على منوال السرعة التي نعيشها، يبدو لنا أننا نقف أمام مفترق طرق كل يوم، ونحن نشهد فجر عصر يلبي احتياجات المستهلك قبل أن يعبر عنها أحياناً، فإن قصة مكتبتنا المتواضعة التي نمرها دون أن نلتفت إليها تتجاوز حدودها المحلية، المكتبة الصغيرة مثال لعصرنا الذي يشكله الابتكار بقوته الناعمة الذي يكتب قصة حياتنا دون أن نشعر.

التغيير الذي واكبته الصحافة اليوم، وصحافتنا خصوصاً، يعتبر مثالاً للاستجابة لمتطلبات التغيير، بما في ذلك مواقع الإنترنت والاندماج في شبكات التواصل الاجتماعي، إنه التغيير الذي نشهده وتعمل في تحريكه أنامل الابتكار النحيلة هو الذي يشكلنا، كاتباً لنا حياتنا يوماً بيوم، لكن قصة التغيير لن تتوقف، ما كان جديداً اليوم، سيصبح تقليدياً غداً. يذكرنا الابتكار أن علينا أن نمتلك قصصنا ونكتبها بأنفسنا، إنها القصص التي تربطنا، وهي التي تشكلنا، وفي النهاية، هي التي تنقذنا.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد