: آخر تحديث

السباق بين الحرب والديبلوماسية... من البحر الأحمر الى البحر الأبيض المتوسط

14
13
16

ازدادت الضغوط الانتخابية في الولايات المتحدة الأميركية على فريق الرئيس الديموقراطي جو بايدن، فلم يكن في استطاعته الاستمرار في تلقّي الضربات المهينة من الحوثيين في البحر الأحمر ولا من الحشد الشعبي في العراق، من دون ردّ عليها. ما حرص على القيام به هو إبلاغ إيران أنّ التصعيد العسكري ضدّ بعضٍ من أذرعها لا يدخل في خانة الانتقال الى حرب ضدّها، وأنّ هدف احتواء حرب غزة ومنع توسعها الى حربٍ اقليمية يبقى هدفاً مشتركاً تستثمر إدارة بايدن فيه جديّاً وبنشاط.

 
عُمان ما زالت القناة الخلفية المهمّة للتواصل الأميركي- الإيراني، والتي من خلالها لا تُعالج العلاقة الثنائية فحسب، وإنما أيضاً تُطرح المعادلات الاقليمية التي لا دور مباشراً لطهران فيها في هذه المرحلة، إنما تتسم بمعرفة وبموافقة إيرانية ضمنية وعنوانها "الضمانات المزدوجة".
 
قبل التوسّع في الحركة الديبلوماسية الناشطة لفريق بايدن في الشرق الأوسط الأسبوع الماضي، والتي شملت المحطة اللبنانية وليس فقط حرب غزة، لنتوقف قليلاً عند الحدث الحوثي في البحر الأحمر. فقد نفّذت الولايات المتحدة وبريطانيا غارات جوية على مواقع حوثية في اليمن، استهدفت البنى التحتية للمسيّرات والصواريخ، وذلك رداً على العمليات العسكرية الحوثية في البحر الأحمر التي استهدفت سلامة الملاحة الدولية واستقرارها.
 
هذا تطوّر خطير بكل جوانبه وتداعياته الاقتصادية والجيو-سياسية. الحوثيون، وبحجة الدفاع عن غزة، كثّفوا هجماتهم على السفن والناقلات في البحر الأحمر وهدّدوا سلامة الإبحار. بيان القيادة المركزية الأميركية (سنتكوم) أكّد أنّ الضربات ضدّ الحوثيين هدفت الى تقويض قدراتهم على الاستمرار في تنفيذ الهجمات، وأن لا علاقة للضربات الأميركية- البريطانية بتحالف "حارس الازدهار" الذي يضمّ أكثر من 20 دولة تعمل في البحر الأحمر ومضيق باب المندب وخليج عدن.
 
البيان الأميركي أكّد تحميل الحوثيين "المدعومين إيرانياً مسؤولية الهجمات على الشحن الدولي"، وأضاف: "نحمّل إيران مسؤولية دعم هذه الميليشيات التي تهدّد أمن الملاحة البحرية". وزارة الدفاع شدّدت على أنّ هذه رسالة بأنّ "المزيد من الأثمان آتٍ" إذا لم تتوقف هجمات الحوثيين. السعودية دعت الى "ضبط النفس وتجنّب التصعيد في منطقة البحر الأحمر واليمن"، فيما تواصل وزيرا خارجية السعودية وإيران لبحث سبل تطوير العلاقات الثنائية، كما تطورات الأوضاع في المنطقة.
 
 ردود الفعل العالمية تميّزت بمعظمها بالتفهم للضربات الأميركية- البريطانية، باستثناء روسيا التي دعت الى انعقاد جلسة لمجلس الأمن. الأكثرية العالمية تخشى على مصير الاقتصاد العالمي في حال استمرار الهجمات الحوثية على الملاحة الدولية، لكنها أيضاً تخشى مواجهة أميركية- بريطانية مع الجمهورية الإسلامية الإيرانية التي تدعم الحوثي اليمني، والمتهمة بتزويده بالأسلحة والصواريخ والمسيّرات إن لم يكن مباشرة، فمن خلال دول إفريقية.
 
اقتصادياً، قد يكون ارتفاع أسعار النفط نتيجة التوتر والتصعيد العسكري في البحر الأحمر وراء دعم إيران وروسيا الضمني للعمليات الحوثية. كلاهما يحتاج الى ارتفاع أسعار النفط. الصين خفّضت وارداتها النفطية من إيران في الأشهر القليلة الماضية. وروسيا في حاجة ماسّة الى زيادة أسعار النفط لتغطية احتياجات حربها الأوكرانية.
 
الدول النفطية العربية تخشى على حقول نفطها ومصافي تكرير النفط، وهي لا تريد أن تكون الضحية. ثم انّ السعودية، مثلاً، حريصة جداً على علاقاتها مع إيران، لا سيّما في هذه المرحلة الدقيقة، وهي ليست وحدها في ذلك. فالإمارات والكويت والبحرين أيضاً تريد تطوير علاقات إيجابية مع إيران، وليس فقط عُمان والسعودية وقطر.
 
أحد الأسئلة المهمّة، هو ما إذا كانت إيران الدولة، أو جهاتٍ داخل الجمهورية الإسلامية الإيرانية، هي التي تغذّي الشهيّة الحوثية لضرب الملاحة الدولية. أو أنّ الحوثي، شأنه شأن "حماس"، قرّر الخروج عن الانضباط تحت الراية الإيرانية والتصرّف باستقلالية وبتوقيت يرتأيه. ردود الفعل الإيرانية تستحق المراقبة الدقيقة، لا سيّما وأنّ وراء الضربات الأميركية- البريطانية للحوثيين في اليمن رسالة مهمّة الى الجهات المعنية في الجمهورية الإسلامية الإيرانية.
 
الأرجح أنّ إيران ستدين وستحتج سياسياً، لكنها لن تنزلق إلى المواجهة العسكرية في البحر الأحمر. الخطر يبقى قائماً في البحر الأحمر، كما على الحدود اللبنانية- الإسرائيلية، طالما أنّ إيران لم تتخذ قرار اللجم القاطع، إما للحوثي في اليمن أو لـ"حزب الله" في لبنان. لكن ذلك لا ينفي أبداً أنّ إيران جزء صامت مهمّ في ترتيبات إقليمية قد تكون مصيرية.
 
تعبير المرحلة في مساعي احتواء حرب إسرائيل على غزة ومنع توسعها الى حرب اقليمية هو "الضمانات المزدوجة" dual guarantees الأميركية والعربية، التي هدفها ليس وقف القتال في هُدَنٍ موقتة أو في فراغ انتقالي، وإنما هو التوصل الى تسوية دائمة بعيدة المدى للنزاع العربي- الإسرائيلي وبالذات للصراع الفلسطيني- الإسرائيلي. السعودية في طليعة هذه الجهود، لكن عنوان الطرح هو ضمانات عربية للطرف الفلسطيني مقابل ضمانات أميركية مدعومة أوروبياً للطرف الإسرائيلي.
 
عنوان الطرح هو أنّ مقابل ضماناتٍ تقدّمها الولايات المتحدة وأوروبا لإسرائيل بالإلتزام بأمنها القاطع في اطار حل الدولتين، تقدّم الدول العربية ضمانات مماثلة الى دولة فلسطين، وتضمن أنّها ستكون سلمية تعيش بأمان وازدهار بجانب دولة إسرائيل. بين السطور هدف تحقيق الردع المزدوج dual deterrence وانتقال منطقة الشرق الأوسط الى منطقة آمنة تصبو إلى التعايش والازدهار. فالخوف من حرب اقليمية ليس وحده المحرّك وراء هذه الطروحات، وإنما الهدف هو أيضاً قطع الطريق أمام موجة جديدة من التطرّف والإرهاب العالمي في حال فشلت جهود الحلول الدائمة.
 
قبل الدخول في تفاصيل أعمق لهذه الطروحات، يجدر القول إنّ تركيا هي جزء من الحركة وراء الكواليس، مع أنّ العنوان الأساسي هو ضمانات مزدوجة، أميركية- عربية. فتركيا طرف أساسي لمعالجة ناحية حركة "حماس" في أيّة معادلة فلسطينية، الى جانب قطر طبعاً.
 
الكلام هو عن نوع من "ائتلاف" coalition عربي يتقدّم بضمانات تتعلّق بفلسطين. العائق قد يكون في صلب العلاقات الفلسطينية- الفلسطينية بسبب الخلافات التاريخية والدموية بين الفصائل والحركات الفلسطينية. المصالحة الفلسطينية الضرورية لأي مستقبل لدولة فلسطين هي مسؤولية عربية- بحسب تصوّر الائتلاف العربي لمبدأ "الضمانات المزدوجة"، وهناك تعهّد قاطع بأنّ مقابل ضمان الولايات المتحدة لاستعداد إسرائيل القبول بحل الدولتين والقبول بدولة فلسطين، فإنّ الضمانات العربية للفلسطينيين ولفلسطين كدولة مسالمة ضمانات جازمة.
 
المعضلة الحقيقية تكمن في العقيدة الإسرائيلية التي ترفض مبدأ قيام دولة فلسطين بجانب إسرائيل، وتعارض حل الدولتين- وهذا هو التحدّي الحيوي للولايات المتحدة الأميركية. ما يحاول فريق بايدن التشديد عليه في طروحاته الرامية لإقناع إسرائيل، هو أنّ مكافأة السلم والسلام الدائم أثمن بكثير لها من مغامرة الحروب وعقلية الحصار. فهناك استعداد عربي وإسلامي بضمانات قاطعة، بأن يؤدّي السلام المستدام الى الازدهار والنقلة النوعية في حياة منطقة الشرق الأوسط.
 
أما إذا استمر التعنّت الإسرائيلي الرافض لحل الدولتين، وإذا أصرّت إسرائيل على سياسة جرّ الولايات المتحدة الى حربٍ مع إيران أو غيرها من الحروب الإسرائيلية المرجوّة، فإنّ الشعب الأميركي لن يوافق، بغض النظر إن كانت الإدارة ديموقراطية أو جمهورية. هذا هو فحوى الرسالة التي تسمعها إسرائيل من الأميركيين.
 
بكلام آخر، ما تسمعه إسرائيل من فريق بايدن هو أنّ الضمانات الأمنية الموسّعة والمميزة لإسرائيل هي الكفيل بأمنها، فيما الضمانات العربية هي الكفيل بازدهارها شرط موافقتها على حلّ الدولتين.
 
ما يحدث اليوم، من غزة الممزقة بحرب الإبادة الإسرائيلية وتهجير أكثر من مليون فلسطيني، الى أوهام معادلات الانتصار والهزيمة الفلسطينية منها والحوثية وغيرها من مجموعة المزايدات العربية، هو أنّ الجميع على شفير الهاوية. لبنان ما زال في عين العاصفة، بالرغم من ابتعاده عن الهاوية واقترابه من معجزة الخروج من فكّي الكماشة.
 
السباق اليوم هو بين مسار الحرب وبين الديبلوماسية المكثفة للبنان التي يتولاها آموس هوكشتاين بتكليف من الرئيس جو بايدن ووزير الخارجية أنتوني بلينكن وبتنسيق وثيق مع المسؤول عن ملف الشرق الأوسط في البيت الأبيض بريت ماكغورك، ويركّز حالياً مع قطر على ملف الرهائن لدى "حماس" والسجناء الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية.
 
بلينكن يعمل نحو وقف العمليات العسكرية الإسرائيلية في غزة بأسرع ما يمكن، فيما يستثمر في لقاءاته مع قادة الشرق الأوسط على الحل المستدام، انطلاقاً من تحميلهم عبء إيقاف الفوضى والغموض في عملية من يمثّل الفلسطينيين في غزة.
 
هناك كلامٌ عن اختبار ترتيبات انتقالية لإدارة دول أخرى لشمال غزة على نسق قوات دولية غير مسلحة لمراقبة الهدنة الى حين التوصل الى مفاوضات لحلول دائمة. هناك أفكارٌ عديدة تُطرح بهدف توسيع جهود وقف هدر الدماء وإيقاف الدمار وتهجير الأمر الواقع من غزة.
 
أما على الصعيد اللبناني، فإنّ قراءة زيارة هوكشتاين بناءً على أحاديث مع مصادر مطّلِعة تفيد بالاستنتاجات التالية، علماً أنّ هوكشتاين زار إسرائيل والسعودية قبل زيارته لبنان: أولاً، قال إنّ الجميع لا يريد الحرب بما في ذلك داخل المجتمع الإسرائيلي الذي يتراجع عن اندفاعه للحرب مباشرة بعد 7 تشرين الأول (أكتوبر). ثانياً، إنّ السباق بين خيار الحرب وخيار الديبلوماسية ليس مفتوح الأفق زمنياً، وأنّ الحكومة الإسرائيلية مستعدة لإعطاء مهلة معينة على أساس تطبيق القرار 1701 وتراجع "حزب الله" الى بُعد 10 كيلومترات عن الخط الأزرق، إبداءً لحسن النية ولكي توقف إسرائيل عدوانها. هذا علماً أنّ إسرائيل سبق وطالبت بانسحاب "حزب الله" الى شمال الليطاني.
 
اجتماعات هوكشتاين مع كل من رئيس مجلس النواب نبيه بري ورئيس حكومة تصريف الأعمال نجيب ميقاتي لم تكن زيارات مجاملة أو لقاءات سطحية، بل انّها دخلت في تفاصيل مهمّة. فالرئيس بري كما الرئيس ميقاتي معني بترسيم الحدود البحرية التي قام هوكشتاين برعاية المفاوضات حولها، وهو حريص على إزالة الخلافات من أجل إصلاح الخط الأزرق بين لبنان وإسرائيل لتطبيق القرار 1701 كلياً وليس جزئياً، ثم انّه مقرّب من "حزب الله" وفي وسعه حمل الرسائل بين الطرفين.
 
الخبراء العسكريون من جنرالات متقاعدين، انضموا الى فريق ميقاتي عند اللقاء مع هوكشتاين بهدف التشديد على شرح المواقف اللبنانية المعنية بنقاط الاختلاف الـ13، كما بهدف تبادل الآراء حول كيفية معالجتها، علماً أنّ المباحثات كانت جارية قبل حرب غزة عبر اللجنة الثلاثية العسكرية التي ضمّت لبنان والأمم المتحدة وإسرائيل.
 
اليوم، إنّ المطروح ليس تجميد الخيار الديبلوماسي كلياً الى ما بعد وقف النار التام في غزة- كما كان عبّر عنه "حزب الله". المطروح هو الاستمرار في استنباط آفاق الحل الديبلوماسي والتطبيق الكامل للقرار 1701، وذلك أثناء فترة الهدنة الإنسانية في غزة والمفاوضات حول الرهائن في قطر، والتي قد تستغرق ثلاثة أشهر انتقالية. هذا إذا انتصرت الديبلوماسية على الحرب في السباق المصيري بينهما.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد