: آخر تحديث

لبناني في روسيا القيصرية

9
11
10

لم يتعلم ميخائيل نعيمة اللغة الروسية ويتقنها في روسيا نفسها، وإنما بدأ في تعلمها في البلدة التي ولد فيها في لبنان، بسكنتا، الواقعة في سفح جبل صنين، حيث التحق، وهو صبي صغير، في العام 1896، بالمدرسة الروسية التي أنشأتها الطائفة الأرثوذكسية بإعانة من الحكومة الروسية القيصرية، ومنها انتقل إلى مدرسة دار المعلمين في الناصرة بفلسطين، التي تشرف عليها «الجمعية الإمبراطورية الروسية الفلسطينية»، حيث تطوّرت معرفته باللغة الروسية وبالأدب المكتوب بها.

بعد سنوات، بالضبط في العام 1906، أرسلت تلك الجمعية نعيمة إلى روسيا، وهناك التحق بمدرسة تعرف ب«السنمار»، في بلدة بولتافا من أعمال أوكرانيا، وبقي هناك حتى عام 1911، قبل أن يعود إلى بلده لبنان، ويقال إن قصة حب مستحيلة حملت نعيمة على مغادرة روسيا، ولكنه عاد محملاً بكنوزٍ من الثقافة والخبرة.

لاحقاً سيحكي ميخائيل نعيمة عن مدى تعلقه بروسيا في كتابه «أبعد من موسكو ومن واشنطن»، وهو الذي عاش في أمريكا أيضاً، وكان واحداً من أبرز أدباء المهجر كما نعلم، ولكنه آثر أيضاً العودة إلى وطنه ثانية، ولم يبق هناك كما بقي جبران خليل جبران وأمين الريحاني وسواهما، وفي هذا الكتاب شرح نعيمة مشاعر الود التي يكنّها تجاه الشعب الروسي البسيط الذي عرفه عن قرب، وعما كان يعانيه وقتها من شظف العيش، حيث شاركه معاناته، حتى أنه خطب في مهرجان احتجاجي هناك، وقال فيه: «نطلب خبزاً فيعطوننا حجراً» مستعيراً بعض كلمات السيد المسيح.

لم يكتف نعيمة بشرح ذلك فقط، وإنما حكى أيضاً عن «الأدب الروسي العظيم الذي قرأه وسرى في دمه»، كما يقول الناقد اللبناني الراحل محمد دكروب في عرض للكتاب نشر في العام 1957، حيث قرأ نعيمة أدب غوغول وبوشكين وليرمنتوف وتورغينف وديستوفسكي وتولستوي وغوركي وسواهم، وعن ذلك قال إن هذا الأدب جعل روسيا «كتاباً مفتوحاً أقرأ فيه ماضيها وحاضرها، وأستشف معالم مستقبلها».

مرّت عقود على مغادرة نعيمة لروسيا، حين أتته عام 1956 دعوة لزيارتها، وقد أصبح اسمها الاتحاد السوفييتي، عقود «تبدّلت فيها الأحوال جملة»، لو جاز لنا استعارة عبارة ابن خلدون، حيث سقطت القيصرية ومحلها قامت السلطة السوفييتية، ولنا أن نتخيل مدى شغف الرجل لمعاينة الفرق بين ما خزّنته ذاكرته عن سنوات إقامته في روسيا وبين حاضرها.

لم يأخذ نعيمة بنصيحة غراهام غرين القائلة: «إذا أدركك الحنين إلى مكانٍ فلا تعد إليه»، بل حرص على أن يزور البلدة التي فيها عاش ودرس وأحبّ، بلدة «بولتافا»، كمن يجدد الحب لامرأة باعدت بينه وبينها المسافات.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد