هل تدفعك الشدائد إلى الذهاب بعيداً جدّاً لمحاولة فهم القريب جدّاً؟ ما هي آثار انفصال العالم العربي عن منظومة القيم التراثية المغذّية للفكر وطريقة التفكير، في المقدرة على حفظ التوازن في زحام الساحة الدولية؟ كان القلم دائماً يولي أهميةً قصوى لثقافة الفعل، ولا يزال، لأمر حيويّ وهو أن الثقافة إذا لم تكن هي المرآة التي تتجلّى فيها الحياة، فلا شأن لها ولا وزن. ما يجب أن يسمّى القيم التراثية هو تلك المنظومة الحيّة على الدوام، القيادية، التنويرية، ما اختلفت السنون والقرون.
لا يحتاج النهار إلى دليل، فالمشاهد واضحة. تأمل كيف كانت مكانة العرب في العصر العباسي، وكيف صارت القوى العالمية تخاطبهم منذ القرن الثامن عشر، والويلات التي تداعى تسوناميها من القرن التاسع عشر إلى يومنا. لم يفهم الناس أن الشعر العربي ليس شعراً فقط، ليس أرجوحاتٍ إيقاعيةً نغميةً تتراقص عليها الأغصنُ والصبايا اللاّئي سكرن من خمرة الأصيل. بمجموعة خُدع ذاتية وداخلية وخارجية أصيبت الثقافة العربية الموروثة بخلع أنياب وقطع مخالب، نجم عنهما تحطيم المعنويات الذي أورث تجويف الشخصية والهوية، تماماً مثلما يحدث في انهيار المناعة.
لو تتفكر الدول ونخبها الفكرية والثقافية في منظومة القيم التراثية، فإنها ستدرك أنها دساتير مكثفة في أقراص ميلليجراميّة، حتى في فهم آيات القرآن الكريم تنصرف الأذهان إلى الأمور الهامشية، غافلةً عن الأسلوب الدستوري التنظيري على نحو أوامر غير مباشرة. ما معنى: «الذي أطعمهم من جوع وآمنهم من خوف» (قريش4). حلّ مشكلة الجوع هو بناء الاقتصاد القوي بلا حدود في جميع الميادين، وحل مشكلة الخوف، أن تكون الدولة نظاماً وشعباً وتراباً وسيادةً في أمن وأمان لا يجرؤ أحد على اللعب بشعرة من مفرقها. أليست الفنون القتالية ألعاباً ورياضات؟
الثقافة العربية اليوم متناقضة مع ميراثها ومع الثقافات الاستراتيجية التي ظلت تلعب بمصير التوازنات الدولية منذ عام 1908، عام ظهور تفاصيل الثقافة الاستراتيجية في الولايات المتحدة. أشعار المتنبي وأبي تمام لا تصلح لأسمار العشاق، فهل ستدندن على العود: «بيض الصفائح لا سود الصحائف في.. متونهنّ جلاء الشك والرِّيبِ»؟ لكن الشاعر كان يعلم أن لثقافته قوة فعل مستندةً إلى أمّة فاعلة. الثقافة العربية اليوم متناقضة أيضاً مع الثقافة الاستراتيجية المفروضة بالقوة، التي تلغي الأدب والفن والثقافة والقيم الأخلاقية وتجبر العالم على أن يصدّق أن الكذب هو الحقيقة.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: قبل حلّ مشكلات العرب مع العالم، يجب فضّ الاشتباك بينهم وبين ميراثهم.