في الأول من سبتمبر الجاري، أجريت في سنغافورة، التي بناها زعيمها الأسبق «لي كوان يو» بكثير من الحكمة والحصافة، انتخابات رئاسية هي السادسة في تاريخها، والثالثة التي يتنافس عليها أكثر من مرشح، وذلك لاختيار بديل لرئيسة الجمهورية حليمة يعقوب التي تم انتخابها بالتزكية عام 2017 كأول امرأة تتولى هذا المنصب.
يعتقد الكثيرون أن منصب الرئاسة في سنغافورة منصب شرفي إلى حد كبير، وأن شاغله يجب أن يبتعد عن السياسة وأحزاب البلاد، ويتصرف بناء على نصيحة مجلس الوزراء. لكن الحقيقة هي أن رئيس الجمهورية في سنغافورة يتمتع بسلطات تقديرية واسعة، فهو مثلاً الوصي على الاحتياطات المالية للدولة وله صلاحية نقض أي ميزانية وأي تعيينات في المناصب العامة الرئيسية كرئيس المحكمة العليا وقضاتها ومفوض الشرطة. وله الحق أيضاً في إقالتهم وفي تفويض سلطة مكافحة الفساد بإجراء التحقيقات إذا ما امتنع رئيس الوزراء عن منح هذا التفويض.
في انتخابات هذا العام تنافس ثلاثة مرشحين وهم: نائب رئيس الوزراء السابق «تارمان شانموغاراتنام» (66 عاماً) المفضل لدى حزب العمل الشعبي الحاكم منذ عام 1959 دون انقطاع، ومسؤول الاستثمار السابق في صندوق الثروة السيادية «نغ كوك سونغ» (75 عاماً)، والرئيس التنفيذي السابق لشركة التأمين «NTUC»، «تان كين ليان». وكل هؤلاء الثلاثة قاموا قبل دخولهم السباق الرئاسي بفك ارتباطاتهم بأحزابهم السياسية وتصفية كل علاقاتهم بالجهات التي كانوا يعملون لديها، علاوة على تقديم شهادات تؤكد عدم امتلاكهم لحصص في الشركات العامة أو الخاصة، وذلك استجابة للضوابط الصارمة التي يفرضها دستور البلاد.
على أن الانتخابات شهدت للمرة الأولى تنافساً ضارياً بين مرشحين أقوياء ثلاثة من ذوي وجهات النظر المتباينة، بل تميزت، خلافاً للمتوقع، باتهام المرشحين لبعضهم البعض باستقطاب الناخبين من خلال محاولة تسييس بعض القضايا خلال عملية انتخابية يفترض أنها مرسخة للوحدة الوطنية، ناهيك عن إطلاقهم وعوداً سياسية تتجاوز منصب الرئاسة.
فمثلاً وعد المرشح «تان كين ليان» ناخبيه بأنه سوف يستخدم نفوذه كرئيس للدفع بسياسات حكومية تؤثر إيجاباً على تكاليف المعيشة والإسكان والوظائف، كما تعهد بتقصير مدة الخدمة العسكرية الإلزامية للذكور ومنح علاوات للمجندين، وهو ما عد تجاوزاً غير مسبوق وتدخلاً في سلطات رئيس الوزراء. وهذا المشهد كان، بطبيعة الحال، مغايراً كلياً لمشهد الانتخابات الرئاسية الماضية التي قررت فيها لجنة الانتخابات أنه لم يتقدم إليها مرشح مؤهل باستثناء حليمة يعقوب، العضو السابق في الحزب الحاكم ورئيسة البرلمان، فتم انتخابها بالتزكية وسط جدل واسع.
في نهاية السباق، أعلن عن فوز المرشح تارمان بأغلبية ساحقة بلغت 70.40 % من الأصوات. وبهذا سوف تتداخل فترته الرئاسية مع الانتخابات العامة المقرر إجراؤها عام 2025، وسط تقارير تتوقع إقدامه على الاستقالة لاحقاً للترشح كرئيس للوزراء باسم حزب العمل الشعبي الحاكم خلفاً لرئيس الوزراء الحالي «لي هسيين لونغ» الذي يهيمن على المنصب منذ عام 2004 والذي أبدى رغبته في التقاعد، خصوصاً وأن استطلاعاً للرأي أجري عام 2016 أفاد بأنه يحظى بتأييد نحو 69 % من السنغافوريين ليكون زعيم البلاد المقبل.
لكن كيف استطاع هذا المرشح، المنتمي إلى الأقلية الهندية، أن يكتسح الانتخابات الرئاسية ويتفوق على منافسين أقوياء؟
بعض المراقبين يرى أن السبب هو نجاحه في أن يميز نفسه عن الحزب الحاكم، الذي واجه في السنوات الأخيرة فضائح فساد نادرة رغم أنه يتخذ من ضرب الفساد وعدم التسامح مطلقاً مع الفاسدين شعاراً له، وذلك على الرغم من عمله الطويل تحت مظلته وانتمائه إليه لأكثر من عقدين، علاوة على نجاحه في تقديم نفسه للناخبين كمرشح إصلاحي له نظرته الخاصة المستقلة للأمور وغير قابل للخضوع لضغوط الحزب الحاكم أو أي قوى خارجية، كما تمت الإشارة إلى عامل آخر هو جرأته التي تمثلت في إطلاقه تصريحاً ذات مرة خارج الخط الحزبي قال فيه، إن سنغافورة باتت مستعدة لتعيين رئيس حكومة من خارج العرقية الصينية، وهذا يتعارض مع موقف الزعيم الحالي «لي هسيين لونغ» ونائبه السابق الذي صرح أن السنغافوريين ليسوا مستعدين لدعم زعيم من الأقليات العرقية.
أما البعض الآخر، فقد أشار إلى أسباب أخرى منها وقوفه كبرلماني خلف مقترحات وسياسات خاصة بالرعاية الاجتماعية للفقراء وكبار السن، ناهيك عن أنه صاحب سجل حافل بالانتصارات الساحقة في دائرته الانتخابية (غورونغ) لصالح الحزب الحاكم، حيث حققت الدائرة أعلى النتائج للحزب على مستوى البلاد في انتخابات عامي 2015 و2020.