: آخر تحديث

غياب البطوطيّة في المناهج

9
8
13
مواضيع ذات صلة

هل فكّرتِ المناهج العربيّة في تنمية ما يمكن أن يُسمّى النزعة البطوطية، أو الفكر البطوطي، لدى النشء الجديد؟ هذا النوع من التربية لا يُترك لمرحلة الصفوف العليا من التعليم، لأن له علاقةً بتأهيل الدماغ وهو غضّ، لهذا الأداء. أداء الترحال إلى آفاق قصيّة، في الطبيعة، كابن بطوطة، الذي قطع خمسة عشر ألف كيلومتر، من المغرب إلى الصين، في القرن الثامن الهجري. الترحال ملايين السنين الضوئية أو ملياراتها في الآماد الكونية، وما وراء المادّة من مادّة سوداء وطاقة سوداء. الترحال على جناحي الروح في مسالك العرفان وتجليات التصوف. الترحال إلى عوالم الجُسَيْمات ما دون الذرّة في فيزياء الكمّ. الترحال إلى أقصى جذور نشأة الحياة وتطوّرها إلى الأنظمة المعقّدة. الترحال الإبداعي في الآداب والفنون. الترحال التنموي الخلاّق الذي يغيّر وجه حياة الشعوب. وكل ترحال مادّي أو معنويّ.

لك أن تسمّيها تربية استقصائية، استكشافية...، فكلها تصبّ في زرع بذرة البحث العلمي في الدماغ، بحيث يغدو البحث الاستقصائي جزءاً لا يتجزّأ من الأداء العام، بصرف النظر عن طبيعة المجال والتخصص. من يراقب المجرّات البعيدة بالمقراب، إنما هو كمن يراقب البكتيريا تحت المجهر، كمن يراقب طائراً أو عاشباً أو لاحماً في الغاب، أسابيع. كمن يسافر مئات ألوف السنين ليكتشف أسرار حمض نووي أحفوريّ استخلصه من بقايا عظام رميم.

في الفنون تختلف الأمور. في موسيقانا مثلاً، أكبر عقبة في طريق تطوّرها، هي أنها طربيّة غير عالمة. هذا يدركه الناقد الموسيقي بلا عناء. هي لا تملك أمرها ولا استقلاليتها. بقاؤها تابعة للكلمة، في شكل الأغنية، يفرض عليها أن تعبّر عن الكلمات. المعنى حزين نستخدم الصبا، إذا كان حماسة نختار الراست أو العجم، وإن كان فرحاً مرحاً فإذاً سيكا. الموسيقى الجادّة لها أفكارها هي، تعبيرها هي، روحها هي. الموسيقى فوق الشعر، لأن الشعر في أعلى علاه يصير موسيقى. ما تتلقاه بفكرك وعقلك ليس شعراً. ما يخدع البعض في الموسيقى الطربيّة هو شدّة الحلاوة أحياناً، أي كثرة السكاكر. السكاكر لا تعني القيمة الغذائية. أمامك مئات الآلاف من الأعمال الموسيقية السيمفونية الجادّة، تأمّل الخيال المجنّح والأفكار المحلّقة، التي فُتحت لها أحضان القرون. العمالقة كأنهم بيننا.

على المناهج العربية أن تنضو عنها ثوب التربية التقليدية التي تفرّخ أقراصاً صلبةً تخزينيةً بلا خيال ورؤى، بلا أحلام واستشراف، بلا استقصاء واستكشاف. الخيال ينبوع الاختراع والإبداع، لا فرق بين العلوم والمعارف، لا فرق بين فرع علمي وآخر أدبي.
لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: حين نحوّل الرحلة البطوطيّة إلى فكرة مجرّدة، ندرك أنها منهاجٌ حادٍ هادٍ في أنظمة التربية والتعليم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد