: آخر تحديث

مزالق الاستلاب الثقافي

18
13
19
مواضيع ذات صلة

هل الاستلاب أخفّ وقعاً من التبعيّة؟ قد يكون أسوأ، فهو من الثلاثيّ سلب، ومفعوله مسلوب، فهو مأسور مغلول. مقولة ابن خلدون عن أن «المغلوب يقلّد الغالب»، جديرة بأن تكون موضوع كتاب في حجم المقدمة أو أبعد توسّعاً. كثيراً ما يغفل الناس عن أن منظومة القيم الثقافية التي تشعر بالوهن أمام التحديات الخارجية، تفقد الإحساس بذاتها، تغدو مفرغة من شحنة دورها في محيطها، سلبية الشعور بوجودها. حتى العمل الإبداعي يصبح نسخاً مسخاً، كأنه من عمل الغير.

منذ مطلع القرن العشرين، في الأقل، وفئات شتى من الأوساط الثقافية، أدباء، شعراء، فنانين تشكيليين، تقتفي آثار المدارس والتيارات الأوروبية، بتقليد لا عيب فيه سوى غياب البصر والأصالة وحسّ النقد الواعي.

هذا التقليد النسخي يُرينا أن المستنسِخين اعتقدوا، من دون أيّ شك نقدي أو تحليلي أو فلسفي، أن المدارس والتيارات الغربية، حتميةٌ تاريخيّةٌ، أو قدَرٌ أدبيّ فنيّ لا مناص منه ولا قدرة على تغييره، وأنه هو النهج الرفيع البديع، بدعوى أن الغرب هو القوي المقتدر الذي شق دروب أشكال الإبداع، وعلى المغلوبين أن يسلكوها، وعلى نقادهم أن يعلكوها. اخترعوا السوريالية، فعليك أن تكون سورياليّاً من أسارير وجهك إلى سلوكياتك وقناعاتك، حتى في مأكلك فتستمع بروعة الملوخية بالآيس كريم، بكعكة الأناناس بالشطة، وقس على ذلك في ملبسك، من دون أن تسأل: هل كانت للآداب والفنون العربية آفاق ممكنة ومسارات سانحة أخرى تنبع من ماضي الحضارات والثقافات التي قامت ونمت على ما هو الخريطة العربية في العصر الحديث؟ ما علاقة تجارب القرون في تاريخنا وتاريخ منطقتنا والبلدان التي تجاورنا في نطاق أوسع من الحدود العربية، بمسرح اللامعقول؟

صحيح أن ماضينا وحاضرنا فيهما ضروب عجيبة من اللامعقول، ولكن علاجها يقع في مواضع أخرى، في التنمية، في النهضة الاقتصادية والعلمية، الزراعية، الصناعية، التعليمية والبحث العلمي.

المضحكات كثيرة، فتلك الفئات من أوساط المشتغلين بالآداب والفنون، كانت لهم قمصان جاهزة لأي صبغة. خرج بيكاسو بالمرحلة الزرقاء، فقالوا: إنّا على آثاركم سائرون، فسمعاً وطاعةً، فتلوّنوا، حتى الأسماء تلوّنت: أزرق، زرقاء، زرقاوي، زرقون، زريق. عرّج بيكاسو على المرحلة الوردية، فإذا الأسماء: وردي، ابن الوردي، وردة، وردان، وريدة، مورودي. ما علاقتنا بالتكعيبية والعرب لا يصنعون حتى مكعبات مرق الدجاج؟ لم يحدث ولا حتى مرّة وحيدة أن قلّد العرب مدرسة أو تياراً غربيّاً، فصاروا فيه روّاداً يقتفي آثارهم الغربيون. أمّا في الموسيقى فأمرها أعجب المضحكات. لم يحاول الموسيقيون العرب قمم الأشكال السيمفونية، وتوهموا أنهم سيبلغون الذرى بسلالم الموسيقى، بمجرد إضافة قيثارة كهربائية إلى التخت الشرقي.

لزوم ما يلزم: النتيجة الفكرية: عظمة الآداب والفنون تولد من الذات. يقول جلال الدين الرومي: «ليس خارجك كل ما في العالم.. من ذاتك اطلب كل ما تريد، فإنه أنت».


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد