: آخر تحديث

كنوز لا نحسن استثمارها

14
14
15
مواضيع ذات صلة

أذكر أنني قبل سنوات عديدة، دخلت في حوار مع شخصية جليلة تولّت مناصب مهمة للغاية في قيادة العمل الدبلوماسي المصري. اتصل الحوار بمذكرات سجّلها في كتاب. اتصل الحوار أيضاً بعرض نقدي لهذه المذكرات كتبته ونشرته لي دورية عربية متميزة. كان عاتباً في تعليقه على ما كتبت. قال ما معناه إنني يجب ألا أنتظر من مسؤول كبير، أن يكتب في مذكراته تفاصيل أحداث ولقاءات أجراها واجتماعات أدارها وخفايا سياسات وأدوات من خارج الدبلوماسية استخدمها لتحقيق أهداف الدولة ومصالحها. حجته أن العمل الرسمي سرّ من أسرار الدولة، ولا يجوز البوح به أو إعلانه في وقته أو خارج وقته مهما طال الزمن. حجتي تلخّصت في أن المذكرات لم تقدم للقارئ العادي ما يشجعه على مواصلة القراءة حتى آخر صفحة في الكتاب.

عوّدني القارئ المدرب على قراءة مذكرات بعض كبار المسؤولين على أنه يقرؤها باحثاً عن ما أخفاه كاتب المذكرات بين السطور، أو احتفظ به لنفسه؛ حمايةً له من غدر غادر وشر كارهٍ أو منافس، أو تنفيذاً لقواعد انضباط نشأ عليها وصعد بفضلها إلى أعلى المناصب. يعلم هذا القارئ المدرب أن المسؤول السابق، وقد صار متقاعداً، غالباً ما ينتهي من كتابة مذكراته ونشرها مطمئناً إلى أن القارئ المدرب لا شك يدرك أن ما خفي عنه في المذكرات أعظم، وربما كان هو نفسه شاهداً حياً على بعض مراحلها. فهمت من أحاديث أجريتها مع أكثر من مسؤول قضى بعض عمره مكلّفاً بمسؤوليات دبلوماسية، وهو ليس من أهلها، أن كاتب المذكرات لا بد أن يحسب لاعتبارات الجاه والمكانة حسابات منفصلة. لمّح أحدهم إلى فكرة لا تغيب عن ذهنه أثناء الكتابة، وهي أنه سوف يحصل من القادة الأكبر والأقدم في رتب القيادة على تقدير متناسب مع حجم ما أخفاه من معلومات في مذكراته، وليس مع حجم ما أعلن من أسرار وكشف عن خفايا وشرح من غموض. لا يدرك هؤلاء أن أكثر ما احتفظ به الكاتب من معلومات، تعامل معها كأسرار لا يجوز نشرها، هي بعيدة كل البعد عن كونها تستحق هذه الصفة، فضلاً عن أن الغالبية العظمى من المعلومات غير العسكرية في كافة الشؤون، وليس فقط في شأن الدبلوماسية، صارت أسراراً معلنة ومنشورة بتفاصيل مذهلة.

أمامنا النموذج في المجتمع السياسي الأمريكي الذي يعيش اليوم متفرجاً على تداعيات هذا الصراع الأبدي على الأسرار في آخر إصداراته، أقصد السباق الإعلامي الراهن في الولايات المتحدة، للحصول على مضمون ما أخفاه أو حاول إخفاءه الرئيس السابق دونالد ترامب من وثائق رسمية، وما أخفاه أو يحاول أن يخفيه الرئيس جو بايدن من تفاصيل فساد واسع النطاق داخل عائلته وتسريب معلومات رسمية سرية الطابع. هذا المجتمع غريب الأطوار، صار فريسة سهلة للاستقطاب الحاد، نصفه ينحاز إلى جانب الشيطان في أي قضية تُطرح عليه، ونصفه الآخر ينحاز إلى جانب الملائكة ولو لبرهة قصيرة. بالصدفة المحضة نعيش هذه اللحظة مع آخر استقطاب أمريكي حول ما يكشفه ببراعة متناهية مخرج الفيلم السينمائي عن قصة أوبنهايمر، صانع القنبلة الذرية، وعن حروب الأسرار بين قوى وأقطاب الدولة الأعمق في أمريكا.


الأمر الأشد غرابة في هذا الاستطراد، هو حالة الاستقطاب حول هذا الفيلم في المجتمع السياسي المصري. فمن حيث الشكل تبدو القضية لا تمس جانباً من تاريخنا، ولكن من حيث المضمون، يغوص موضوعها حتى الأعماق في تفاصيل نخشى تداعياتها على حياتنا، تفاصيل عن حروب الأسرار التي تنشب في عالمنا العميق بين قوى لا نعرفها أو نعرف عنها القليل غير المفيد، وتفاصيل عن حروب، وإن كانت مكتومة الصوت، فإنها باهظة الكلفة، طويلة الأجل.

لدى أكثر المتقاعدين من الدبلوماسيين المصريين وغيرهم من الدبلوماسيين العرب، ما يستحق أن يروى. أتمنى أن أراهم وقد أقدموا الواحد بعد الآخر على كتابة مذكرات عن حيواتهم في هذه المهنة التي لم تحصل بعد على حقها، وعن دورها في عالم السياسة الخارجية المصرية.

لم نقرأ حتى يومنا هذا مذكرات تكشف من واقع المعايشة والمشاركة الفعلية بعض الحقائق عن أخطاء ونقائص في أداء السياسات الخارجية العربية أوصلتنا إلى الحال الراهنة بين أحوال الأمم. قد نجد في ما سوف يكتبه المتقاعدون من الدبلوماسيين العرب، والمصريين بشكل خاص، تعويضاً عن قصور في ما سجله الأسبقون في مذكرات أكثرها صدرت مكتومة الصوت والرأي والمعلومة. ثم إننا ونحن نقرأ ما يكتبون سوف نتعلم، وسوف يتعلم معنا جيل الدبلوماسيين الناشئين، بعضاً أو كلاً مما استُجد في الشؤون الدولية التي صارت مختلفة في الجوهر والأداء عن شؤون دولية درسناها في الكتب وقاعات المحاضرات، أو تعاملنا معها في مختلف الظروف والمؤتمرات والعواصم.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد