: آخر تحديث

الجين هو الغالب

12
11
14
مواضيع ذات صلة

بكل تأكيد إن هناك فرقا كبيرا بين المدنية والتمدن، فالتمدن /الحضر، هو استحضار تفاصيل التحضر والحضارة بأن يكون الأفراد أكثر تحضرا ورقيا مع احتفاظهم بسلوك البيئة ذات النشأة في عاداتهم وتقاليدهم وتصرفاتهم، برغم ذلك التغير الواضح في الثقافة المادية لديهم، كالأبنية والمنازل والطرز المعمارية والحرف والصناعات الشعبية والأدوات الزراعية والأسلحة والحلي وأدوات الزينة والأدوات المنزلية وغير ذلك من جلب كل معالم المدينة إلى الريف أو من دولة إلى أخرى، أو من حضارة إلى حضارة، ليس في سلوك الأفراد وإنما تغير الثقافة المادية نفسها فقط.

أما المدنية فهي تقلب سلوك الأفراد نتاج ارتحالهم من الريف إلى الحضر، أو من مكان إلي آخر مع الاختفاء التدريجي لسلوك الأفراد وممارساتهم اليومية وهذا أخطر ما في الأمر.

ومن هنا يكون الفرق واضحا بين المدنية والتمدن، بأن المدنية تطال ذلك التغيير في سلوك الأفراد انفسهم بحيث يصبح سلوك المرء غريب غرابة الرحلة من الريف إلى المدينة، أو من دولة إلى أخرى، فهي ارتحال مكاني قد يعمل على التغيير السلوكي، وهذا على العكس من التمدن الذي هو استقرار مكاني برغم التغيير الملحوظ في تفاصيل الثقافة المادية التي ذُكرت آنفا.

ولذلك نرصد كل التفاصيل التي قد تطرأ على سلوك الأفراد إما سلبا أو إيجابا، ومن أهم هذه التغيرات هي الخوف من ظاهرة التباعد الاجتماعي وانغلاق الأفراد على ذواتهم وأشدها بين الأقارب التي قد تصبح في يوم ما ظاهرة اجتماعية في المجتمع العربي والذي من أقوى سماته هي صلة الرحم، التزاور، التكاتف، التآزر، الإيثار، الرحمة والمودة خاصة بين ذوي القربى!. حينها تصبح العلاقة بين الأفراد هي علاقة منفعة وأخذ وعطاء وهات وخذ: ماذا تعطيني حتى أعطيك؟ وهل أحسنت إليَّ كي أحسن إليك؟ تساؤلات شاذة وغريبة لا تنم عن شيء سوى التأثر بما يسمى في علم الاجتماع بالصدمة الحضارية وتأثيرها على سلوك الأفراد، ذلك لأن أي طفرة حضارية يحظى بها أي بلد وتكون حديثة العهد تصبح سريعة التغيرات في السلوك البشري؛ فإذا ما قسنا عمرها الزمني بالمئة عام فهي فترة وجيزة جدا في عمر الزمن الحضاري الذي يأخذ مئات السنين كي يستقر.

فبما أن الله قد حبانا بلدا عربيا ليس ككل البلاد في حضارته وسعة رقعته وعاداته وزخم تقاليده وسمات شخصيته، فإنه من الواجب أن نسعى حثيثا للتمسك بعرى ثقافته التي كونت شخصيته كي يتعادل الميزان بين التطور والتحديث وبين الحفاظ على معالم السمات الاجتماعية فيه.

إن أشد ما يؤرق الفرد بيننا هو الخوف من ظهور العلاقات المتواترة والمتباعدة وقد تصل إلى حد القطيعة في بعض الأحيان، وحينما تسأل الواحد حينها تأتي الإجابة بالانشغال وكثرة المسؤوليات والكثير الكثير من الأعذار التي لا تغسل وجه الفرد من هذا المسلك البغيض الذي لا يعمل على تفكك عرى وروابط المجتمع بقدر ما يترك أخطار كبيرة على الصحة النفسية وتفشي ملامح الانعزال الذي يؤدي بدوره إلى الاكتئاب والقلق والفردانية، فالشخصية العربية في بنيتها تختلف كثيرا عن الشخصية الغربية، إذ أن التباعد الاجتماعي لدى الغربي أمر عادي لا يؤثر على صحته النفسية على الإطلاق، لأنه في تكوينه نشأ على هذا؛ بينما العربي منا نشأ - في جينه الأصلي وفي عمق تكوينه - على خاصية مجتمع الإيثار والعيش في جماعات وهذا واضح في تاريخنا الاجتماعي لا يقبل الشك، فقد كان الرجل يجور على نفسه وهو أحوج ما يكون لذلك، فهم من ابتدع شيمة الإيثار قبل ظهور علم البروتوكولات وسلوك (الإتيكيت)، وفي هذه الرواية خير دليل للمستشرق ويلفريد ثيسيجر مبهورا بسلوك العربي وخاصته في الإيثار لديه حتى لو لم يكن الشخص على معرفة بالآخر، عندما كان يصطحب ابن قبينة معه في الأسواق وكان ثوبه مهلهلا، حينها اشترى له ثوبا جديدا لكي يظهر إلى جانبه بالمظهر الحسن لكنه في اليوم التالي وجده يرتق ثوبه القديم فيقول: جلس ابن قبينة على مقربة مني، يرتق فتوق قميصه الذي أصبح في حالة يرثى لها، وسألته في انزعاج لماذا لا يلبس قميصه الجديد، فتردد قبل أن يعترف لي بأنه منحه لزميل له الذي كان في حاجة إلى قميص.

ولهذا كانت دهشة ثيسيجر من سلوك العربي الاجتماعي بالغ الرقي حينها يقول: عرفت معنى الصحبة وواجبات الزمالة.. ذقت طعم الهدوء والطمأنينة والمتعة الحقيقية التي تنبع من القناعة والزهد ثم يستطرد في صفاتهم حتى يقول: يعتبرون أنفسهم حراس العادات والتقاليد والأعراف ولكل منهم حلمه في الحياة، ليست حياته الخاصة وإنما حياة الكل، فلا وجود لمفهوم الفردية بينهم.

هذه السمات التي تميزنا عن غيرنا كيف نفرط فيها لنصبح متمدينين بخصائص مستوفدة من هذا التلاقح الغربي الذي إن ترك فينا شيئا فإنما هو الشرخ في عمق بنية الشخصية وهذا ما يترك كثيرا من الأمراض النفسية وأهمها الاكتئاب والملل والقلق الذي ربما يطرأ عليها، نتاج التناقض بين الموروث والمستوفد، ولذلك يقول ثيسيجنر إني لأشفق على العربي إذا ما ذهب إلى إنجلترا، هذه الكلمات التي ذكرها هي خلاصة الفكر بين مجتمع ومجتمع وبين شخصية وأخرى وبين عالم غربي وعالم عربي، فهو يرى أن سمة الانعزال لديهم أمر عادي ومستحب بينما لم يستطع هو نفسه أن ينعزل بين العرب لشغفهم بالحياة الجماعية!

إن ما يؤرق الفرد منا هي ظاهرة الانعزال عن المحيط الاجتماعي والتفريط في مواصلة الأرحام حتى أصبح الأمر شبه عادي دون علم منا بمدى خطورة ذلك على الصحة النفسية والبنية الاجتماعية كلها، وفي نهاية الأمر نستطيع القول إنها لا تزال بيننا وشائج المحبة والحس العطوف المحب مهما تباعدت بيننا الخُطى، لأن الجين كامن فينا لن يغيره التمدين.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد