: آخر تحديث

الجزائر... لماذا نسيان المنفيّين في زحمة الاحتفال بالذّاكرة التاريخيّة بالتقسيط؟

13
16
22
مواضيع ذات صلة

احتفلت الجزائر كعادتها كل سنة بعيد الاستقلال يوم 5 تموز (يوليو)، وسلّمت خلال هذا اليوم الأوسمة والجوائز الأدبية، كما رفع العلم الوطني على البنايات الرسمية المختلفة، وعقدت اجتماعات وندوات شارك فيها مؤرخون وأدباء إلى جانب شخصيات وطنية كان لها دور في حركة التحرر الوطني، ولقد تم التركيز على ثورة 1954. 
 
لكن هناك شيئاً مهماً ومؤلماً جداً يسكن تضاريس الذاكرة التاريخية الشعبية الجزائرية المجروحة لم يأخذ حقه في هذه الاحتفالات، وهو ذكرى نحو 25 ألف جزائري، بينهم 20 امرأة، نفاهم الاستعمار الفرنسي إلى "كايين" التي هي جزء من المستعمرة الفرنسية "غويانا" في أميركا الجنوبية بين عامي 1852 و1939، و1822 جزائرياً إلى جزيرة "كاليدونيا الجديدة" الواقعة جنوب غربي المحيط الهادي على بعد أكثر من 18 ألف كيلومتر من الجزائر. 
 
في هذا الخصوص، تؤكد الدراسات والشهادات التاريخية الحية أن "المنفيين الجزائريين إلى كاليدونيا الجديدة بين 1864 و1921 كان بينهم 350 منفياً سياسياً". 
 
والحال، فإن هذه السلسلة من عمليات النفي والترحيل الزجري لم تكن نزهة في أعالي البحار والمحيطات، إذ تذكر الشهادات الحية أن عدداً معتبراً من هؤلاء المنفيين قضوا نحبهم وهم في الطريق إلى المنفى، جراء تعرضهم المنهجي للضرب العنيف والتجويع وللشمس الحارقة حيناً وللبرد القارس والرياح الهائجة حيناً آخر. 
 
إلى جانب ذلك، فإن هؤلاء المنفيين الجزائريين، ومعهم عدد قليل من المغاربة والتونسيين الذين تعرضوا بدورهم للترحيل القسري، فرضت عليهم جميعاً فور وصولهم إلى "كاليدونيا الجديدة" وإلى "كايين" الأعمال الشاقة وشتى أنماط السجن والاضطهاد والعزل وغيرها من أشكال التعذيب الجسدي والنفسي. وفي هذا الصدد، تندرج شهادة المفكر الفرنسي الشهير ميشال فوكو بخصوص آليات الإبعاد والنفي والسجن في تلك المرحلة الاستعمارية، إذ قال في محاضرة له في "الكوليج دي فرانس" إنه بدأت "خلال القرن التاسع عشر مجموعة كاملة مكوّنة من فرق المعمرين المتطوعين تقريباً والفيالق الأفريقية والفرق الأجنبية، و"كايين" الاشتغال المتلازم مع نظام جزائي يظل مرتبطاً بالسجن أساساً". 
 
وفي هذا السياق، يضيف مؤرخ جزائري آخر حول عذابات مأساة النفي والسجن في ظل الاستعمار الفرنسي، أنه "على غرار سجن غوانتانامو، يقع سجن "كايين" في أميركا الجنوبية، وبالضبط في غويانا التي استعمرتها فرنسا سنة 1626 وأسست فيها عند السواحل الأطلسية سجناً رهيباً سنة 1852 كانت ترسل إليه من غضبت عليهم من المجرمين في فرنسا أو من ثوار الحرية في مستعمراتها الأخرى".
 
بعد هذه الإشارات المقتضبة إلى إحدى أقسى مآسي التاريخ المعاصر التي تعرض لها الجزائريون الذين قاوموا الاستعمار الفرنسي في القرن التاسع عشر، وساهموا في بناء الوعي التحرري الجزائري وفي تعبيد طريق الاستقلال، وعوقبوا جراء ذلك بنفيهم إلى المستعمرات المترامية في الأصقاع البعيدة من هذا العالم، نتساءل: لماذا لم تقم أجهزة الدولة الجزائرية، وفي مقدمتها وزارة الخارجية والجالية الوطنية في الخارج المسؤولة رسمياً عن أمن جميع الجزائريين الموجودين في مختلف أقطار العالم ومصالحهم، بمن في ذلك عشرات الآلاف من أبناء المنفيين الجزائريين إلى "كاليدونيا الجديدة" وإلى "كايين"، بتنفيذ عمليات إدماج هؤلاء بأي شكل من الأشكال في الحياة الوطنية ومسح غبار الغبن التاريخي الذي ما فتئوا يعانون مرارته على مدى 171 سنة؟ 
 
يؤكد المتابعون لشأن عائلات المنفيين الجزائريين التي تقيم في كاليدونيا الجديدة وفي "كايين" منذ حادثة النفي  فصاعداً، أن الدولة الجزائرية لم تعلم الرأي العام الوطني بأنها قامت بتسوية عادلة للأملاك التي تركها أجداد هؤلاء وراءهم جراء نفيهم الأبدي من طرف الاستعمار الفرنسي، علماً أن تلك الأملاك كانت كثيرة ومتنوعة وتتمثل في الأراضي والأموال والمواشي والبنايات التي طمست معالمها وأصبحت في قبضة أفراد آخرين أو عائلات أخرى لم يحدد نسبها.

والسؤال المطروح في هذا الخصوص هو: متى ترد تلك الأملاك إلى أصحابها، ومتى تسوى على الأقل بتعويضات عقارية أو مالية بديلة إحقاقاً للحق وتقديراً لجهاد هؤلاء الأجداد الذين لعبوا دوراً ريادياً في صنع لبنات النضال التحرري الوطني المعاصر. وهناك من يتساءل أيضاً: لماذا لم تعلم وزارة المجاهدين المسؤولة مباشرة عن ملفات المجاهدين وذويهم الرأي العام الوطني بالخطوات التي قطعتها في مجال تخصيص المنح الشهرية لأبناء هؤلاء المنفيين الشهداء؟ 
 
أما وزارة الثقافة الجزائرية فلم تتحرك إلى يومنا هذا لتأسيس المراكز الثقافية والاجتماعية للجاليات الجزائرية المقيمة بعشرات الآلاف في "كاليدونيا الجديدة" وفي كايين، وتنظيم لقاءات متواصلة وجادة مع أفرادها بمشاركة أبرز الفنانين والأدباء والمؤرخين وعلماء النفس المتخصصين في علاج كدمات الحروب والمنافي والغربة وهلم جرا.
 
لا شك في أن جالية المنفيين وأبناءهم المبعدة من أرض الوطن منذ 1852 تعاني مرارة  تشظي الهوية، وهي تحتاج فعلاً إلى ترميم وإعادة البناء، ومن الغريب أن ألا تخصص الدولة الجزائرية النفطية الأموال والملحقين الثقافيين والإعلاميين والمعالجين النفسيين المؤهلين للقيام بعمليات غسل رماد المنافي ومكافحة كدمات التاريخ الاستعماري الذي لا يزال قائماً مع الأسف جغرافياً، وفي البنى الثقافية واللغوية، وفي تضاريس النفسيات القلقة خلف ظلمات البحار والمحيطات البعيدة من الوطن.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد