: آخر تحديث

الحلاج بين الشهادة والمأساة

24
28
33
مواضيع ذات صلة

الحلاج، هو الاسم المعروف والمتداول في كتب التاريخ والدراسات والمقالات، والحلاج هو لقب الحسين بن منصور، لقب لازمه ولازم اللقبَ مأساتُهُ، ولقب الحلاج ترفق دومًا بخاتمة حياته المأساوية، وهي مأساة في الظاهر وشهادة على مأساة كبيرة تنخر في الخلافة العباسية....؛ لأن أباه كان يعمل في النسيج سُمِّيَ «الحلاج»، فورثَ الابن اللقب ولم يرث العمل، وليس من المتوقع أنه ورث أي شيء من أبيه سوى اللقب، وما كان أبوه يتوقع أن يصبح هذا اللقب عَلَمًا بارزًا في كتب التاريخ وفي مؤلفات الدراسات الإنسانية والصوفية... وُلد الحلاج، لسوء حظه، عام 244هـ (858م)، في فترة حكم الخليفة المتوكل على الله أبوالفضل جعفر بن محمد المعتصم، وكان بداية حكمه بداية تحوّل الخلافة العباسية من عصرها الذهبي، الذي دام 102 عامًا هجريًا، إلى عصر الانحطاط، وتاريخيًا يُعرف بالعصر العباسي الثاني الذي صار تحت رحمة الأتراك، والمعروف بعصر نفوذ الأتراك، وقد قتله التُّرك بعد التآمر عليه مع ابنه المنتصر بالله أبوجعفر محمد بن جعفر... المتوكل على الله يقتله المنتصر بالله، ألقابُ التَعَظُّمِ باسم الجلالة (الله) كان خلفاء بني العباس يتشدّقون بها بدءًا مع عصر الانحطاط. ومات الحلاج بتنفيذ حكم الإعدام عليه عام 309هـ في عهد الخليفة المقتدر بالله أبو الفضل جعفر بن أحمد المعتضد، والذي قتله التُّرك عام 320هـ، أي بعد 11 عامًا هجريًا من إعدام الحلاج. هذا المشهد المأساوي (التراجيدي) بين ولادة الحلاج وإعدامه، وقتل خليفة في عام مولده وقتل خليفة بعد إعدامه، هو شهادة على ذلك العصر، عصر الانحطاط الذي كان الحلاج يحذّر من تداعياته الكارثية على الخلافة والناس والحضارة معًا...

مالَ الحلاج بتأثير فطرته النبيلة إلى الفضاءل التي تنادي بها الصوفية، فاتخذ الصوفية نهجًا يسترشد به، وتشرّب من الصوفية تلك الفضيلة التي تقرّبه إلى الله وتزرع في نفسه حبّ الخير للناس أجمعين. ولكن، صُوفيته كانت من نمطٍ آخر غير تقليدي وغير انعزالي، إذ لم يكن كبقيّة الصوفيين يعيش في كهف بعيدًا عن الناس غير مبالٍ لقضاياهم وآلامهم ومآسيهم، بل أنه تمرّد على كهف الصوفية وخرج منه حاملًا شعلة القيم الصوفية لينير بها مجتمعه ويحمي دولته ويعزّز مكانة الخلافة ويحافظ على منارة الحضارة. هذه كانت رسالته في عصره، الذي كان يسود فيه الفساد، وكان الفساد قد بلغ حدّ السيف على رقبة الخلافة، والسيف بيد الخلافة ذاتها... خلافة وحضارة كانتا معًا تتدحرج على منزلق الفساد إلى هاوية الانتحار، وهذا ما كان يراه الحلاج ببصيرته التي تستنير بفطرته النبيلة.

خرج الحلاج من كهف الصوفية حاملًا رسالة الإنقاذ، فاتجه أولًا إلى مراكز القرار، إلى قصر الخلافة وإلى مجالس العلماء والفقهاء، وهو بهذا التوجه المباشر إلى مراكز القرار قد اختصر المسافات حتى لا يُساء فهم رسالته والهدف النبيل منها. قدّم رسالته بثقة وبحسن نيّة وبأريحية صوفية منزّهة من أيّة منافع ذاتية، حتى يأتي قرار التقويم والإصلاح والعودة إلى الطريق الحضاري الآمن السليم من أعلى سلطة في هيكل الدولة والخلافة، وهو الطريق الأمثل للخروج من مزبلة الفساد ومن مسار الانحطاط، قبل أن تصل الدولة والخلافة، وهي محمّلة على ظهر الفساد المتسارع، إلى هاوية الانحطاط، حيث لا رجعة بعد خاتمة القَدَرِ الذاتي المحتوم بالفناء.

تجاوب مع رسالته شريحة من الوزراء و العلماء والفقهاء، ممن لم تمسّهم آفة الفساد وكانوا مثل الحلاج حريصين على سلامة الدولة والخلافة، بينما استنكرها واستصغرها وخاف منها، على مصالحهم الأنانية، وغضب على حاملها زمرة الفساد من المرتزقة وبعضًا من أبناء الدولة والخلافة نفسها، وجلّهم من أصحاب النفوذ القادرة والأقرب إلى قمة هرم القرار والأكثر قدرة على التأثير في شخص الخليفة ذاته، حتى جعلوا من الخليفة ألعوبة بين أياديهم تتقلّبها النزوات والأهواء... خليفة يخلع وآخر يسحل ويقتل، وخليفة دمية ينصّب على عرش دون سلطة ولا حتى كلمة.

غلبتْ كفّة الفساد والدمار وعلت فوق كفّة الإصلاح والصلاح، فصدر الحكم السياسي مشفوعًا بسند فقهي بتكفير الحلاج وبمقتضى التكفير واجب الإعدام. فقهاء ووزراء وعلماء وقفوا ضد قرار الحكم، ولكن كفّة ميزان تنفيذ الحكم كانت أقوى وأمض من صوت المعارضة السياسية والفقهية.

فكان حكم الإعدام عليه عبر سلسلة من أساليب التعذيب والسحل قبل إزهاق روحه. هذا المشهد في كامل عذاباته التراجيدية على مسرح الإعدام هو كشف عن واقع المجتمع في ذاك العصر الذي كان شاهدًا على مرحلة من التحوّل النوعي بالتنكر لحضارة عظيمة ونخرها بنزوات الفساد الذي استشرى، وفعلًا فعل الفساد فعله وانحدرت تلك الحضارة وهوت وسقطت، وكانت نهايتها تفكّك الحضارة إلى دويلات تتصارع فيما بينها ويعاني شعوبها الويلات. وليس أدلّ على ذلك السقوط من أن خليفة، تحت لقب أمير المؤمنين، يعبثُ به جند الارتزاق من فلول المرتزقة وبتعاون من المنافقين والخونة، ويخلعه من العرش ومن ثم يفقأ عينيه ويضعه أمام مسجد يستجدي قوت يومه مما يتصدّق عليه المارة، وينصّبون ابنه دميةً على كرسي الخلافة ويُلبسوه عمامة «أمير المؤمنين»... مشهد أبشع وأنكى من مشهد مسرحية إعدام الحلاج، وحيث الابن على كرسي الحكم والأبُ الأعمى أمام مسجد يمدّ يده لصدقات من المصلين ومن المارة. الحلاج كانت بصيرته تدله على هذا المصير الذي كان ينتظر حضارة ينخر فيها الفساد دون رادعٍ ولا مصلح ولا مقوم... فكانت المأساة البشعة الكبرى، الغياب الأعظم لغيرة الخليفة على الخلافة، ناهيك الحرص على الدولة وعلى الناس.

الفساد كلمة، وهذه الكلمة إذا تحولت إلى فعل تلوثت النفس، ومع تلوّث النفس تنهار دول قوية وتموت حضارات كبرى... إن للفساد طعمًا لا يتذوقه ويستسيغه إلّا من بلغت به دناءة النفس إلى بيع ذاته وتدنيس عِرْضِهِ، ومن يعرض ذاته للبيع في سوق نخاسة الفساد، فإن قطرة الحياء بذاتها تتبخر من ذاته. إن للفساد قوةً جبارة للتدمير، تدمير الدول والحضارات وإذلال الناس وتلويث كل ما هو طاهر... إن الذين يتلمظون طعم العيش والعظمة في مزبلة قاذورات الفساد، فإنهم يرون الطهارة جريمة، ومن تأثير هذا الفارق بين الطهارة والقذارة تم إصدار حكم الإعدام، ليس على الحلاج لذاته بسبب أقواله الحكيمة وأشعاره الصوفية واجتهاداته الفقهية، بل على الطهارة التي كانت تحملها رسالة الحلاج... والذي يُعْرَفُ أو يُعَرَّفُ بمأساة الحلاج ليس سوى شذرة من مأساة كبرى وهي المأساة الحقيقية التي كان يتصدى لها الحلاج، فدفع حياته ثمنًا لإنقاذ مجتمعه من تلك المأساة الكبرى... مأساة الحلاج كانت انعكاسًا لمأساة كارثية كبرى، مأساة أمة ودولة وحضارة. الحلاج كان يرمي إلى إنقاذ الخلافة والحضارة معًا من الانهيار وإنقاذ الناس من البلاء، بينما الخلافة، التي كان بيدها الحل والربط، أبَتْ على نفسها إلّا الانتحار بِسُمِّ الفساد، مثل انتحار آخر ملوك مصر في العهد البطلمي، كليوباترا، بسم الأفعى... انطفأت شمعة حضارة قوية وانتهت الخلافة وتحوّلت إلى شرذمة من الملوك والسلاطين، وبقي الناس يعانون البلاء من وطأة حال إلى وطأة حال أخرى. هكذا يعلمنا التاريخ كيف يكون حال الحكم والناس مع تعاقب الزمن... هناك من يتلاشى رغم العظمة، وهناك من يبقى رغم تحوّل الأحوال، وإن كان من حال سيّئ إلى حال أسوأ!!!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في جريدة الجرائد