مع حلول شهر يونيو وبداية ارتفاع درجة الحرارة واشتداد معدلات الرطوبة في البحرين وسائر دول الخليج العربي، يبدأ المواطنون ممن تؤهلهم ظروفهم المادية في اختيار جهة الاصطياف ليقضوا فيها فترة تبعدهم عن غضب الصيف وقسوة الطبيعة الجغرافية لمنطقتنا. فقبل أكثر من أربعة عقود، حين كان السفر متاحًا للمقتدرين ممن يملكون فائض مال، كان خيارهم الأول العاصمة اللبنانية بيروت، وهي المدينة التي كانت تستحق فعلاً أن يطلق عليها إذّاك لقب «باريس الشرق»، نظرًا لما حباها الله من طبيعة ساحرة وطقس فريد، ومجتمع متعلم ومثقف وواع وفضاء من الحرية أهَّلها لتكون مأوى لكثير من الوطنيين من مشارق الأرض ومغاربها، ونظرًا كذلك لما كانت تتمتع به من أمن وأمان وسكينة وجمال، وهذا ما أضحى في خبر كان، إذ كانت بيروت على النقيض تمامًا مما باتت عليه، فهي الآن نهب لحسن نصرالله وعصاباته وفريسة للإرهاب والفقر والكآبة التي تملأ جنباتها شأنها في ذلك شأن مناطق كثيرة من لبنان، وأصبحت عروس شرق المتوسط تخلو من أبسط مقومات السياحة التي كانت فيها تحتل الصدارة بين الدول العربية. بيروت الجمال والحب والتسامح والتعايش أصبحت الآن مأوى للطائفيين وسردابًا كبيرًا لحياكة المؤامرات والدسائس ضد الدول بإشراف من أمين ما يسمى بـ«حزب الله».
ما أثار استغرابي واستفزني لكتابة هذا المقال هو اعتزام بعض من أقربائي زيارةَ بيروت لقضاء الصيف فيها! تساءلت مستغربًا، وهل في هذه البلاد اليوم ما يُغري برؤيته غير البؤس والفقر والنفايات المكدسة على الطرقات، ومشاهد الانهيار الاقتصادي والتفكك الاجتماعي التي وقع هذا البلد فريسة لها؟ كل الأخبار الواردة من هناك تفيد أن الأمن، كأهم مقومات السياحة والاستجمام، قد صار له زمن طويل وهو في غياب تام عن لبنان، فقدْ فَقَد هذا البلد أمنه واستقراره، وصار مرتعًا للعصابات والعمليات الإجرامية، وقد شهدنا في غضون الأيام القليلة الماضية اختطاف السعودي مشاري المطيري، وطلب الخاطفون فدية 400 ألف دولار لإطلاق سراحه، ولولا تدخل الدولة السعودية دبلوماسيًا لما رأى هذا المواطن السعودي النور. لبنان ذو طبيعة خلابة، وهذه حقيقة لا جدال فيها، ولكن ما نفع الطبيعة الخلابة في ظل غياب الأمن، وفي ظل حضور «حزب الله» التنظيم الإرهابي المشهود له بكل الفظاعات في المشهد اليومي في بيروت؟ لم تعد لبنان بلادًا جذابة تستقطب السياح، بل إنها أصبحت طاردة حتى لمواطنيها الذين يتسولون الأمن والأمان والرزق في بلاد الله الواسعة.
لا أنكر أن تناول الشأن اللبناني بمثل هذه النغمة أمر يُحزنني، ذلك أن لبنان لا يليق به هذا القدر بعدما كان صاحب فضل على البشرية على امتداد تاريخه الطويل فهذا البلد الجميل أفرز خيرة الكتاب والشعراء والفنانين والمفكرين واحتضن السياح الخليجيين على مدى سنوات الخمسينيات والستينيات والنصف الأول من سبعينات القرن الماضي قبل أن تعصف به نيران الحرب الأهلية التي يُفترض أن تكون درسًا تُقبر معه نهائيًا كل النزعات الطائفية لأنها لا تورّث إلا الانهيار والتناحر. ولعل أسوأ ما أفرزته الحرب الأهلية اللبنانية، فضلاً عما ألحقته بالبلد من دمار وضغائن، «حزب الله» الطائفي الذي وضعته أقدار الحرب في صدارة المشهد متحكمًا في مسار الدولة السياسي والاقتصادي مكبلاً حركة المجتمع في إحراز نجاحاته في التقدم والانفتاح على أشقائه العرب، فارضا شروطه، مستغلاً ضعف الدولة، في كل المفاوضات التي يُراد منها تسيير شؤون الدولة اللبنانية. منذ جاء هذا الحزب بدأ تعطيل الدولة عن أداء وظائفها، واختل الأمن، وزادت وتيرة هجرة اللبنانيين إلى بلاد الله الواسعة هربًا من جبروت هذا الحزب، وساءت علاقات لبنان مع العرب عموما ومع الخليجيين على وجه الخصوص، وبدلاً من أن يصدر لبنان الثقافة والجمال والأناقة أصبحت تجارة المخدرات فيه وتهريبها إلى دول مجلس التعاون هي العنوان الأبرز.
السؤال الأبرز الذي يتبادر إلى الذهن كلما طُرحت المسألة اللبنانية، هو: هل سيتغير هذا الواقع الأليم؟ وللإجابة عن هذا السؤال فلنتأمل معًا عملية انتخاب رئيس الجمهورية، وهي خير مثال يجسد فساد الوضع اللبناني، فأعلى منصب سياسي في البلاد ظل كرسيه خاويًا خاليًا شاغرًا منذ سبعة أشهر، ليدل بخوائه على خواء الطبقة السياسية التي عبثت بلبنان، وأرغمته على أن يكون فريسة تجاذبات حزبية حكمت على أن يكون رئيس لبنان نتاجًا لمساومات حزبية وطائفية قد لا تثمر في جلسة مجلس النواب المقررة ليوم الأربعاء الموافق 14 يونيو إلا الفراغ ومزيدًا من الدفع بلبنان في اتجاه الهاوية، فمرشح حزب «الممانعة» سليمان فرنجية، وهو واحد من رموز الأحزاب الطائفية الذين يدفع «حزب الله» في اتجاه اعتلائه كرسي الرئاسة اللبنانية، تكمن مصلحته لدى أحزاب الممانعة التي يشترك معها في البنية الطائفية نفسها، وفي مقابله مشروع ترشيح جهاد أزعور رجل الاقتصاد المعروف عالميًا والذي يمكن أن يمثل حلاً ممكنًا لأزمة لبنان الاقتصادية لا يحظى إلا بأصوات قليلة، حتى الآن، لا تسمح له ببلوغ عتبات باب قصر بعبدا. ولنتذكر جميعًا ما جرى مع رئيس على مقاس حسن نصرالله في المرحلة السابقة هو الرئيس ميشيل عون الذي بلغ معه لبنان واللبنانيون الحضيض.
الأيام القادمة ستثبت أن الجماعات السياسية المدنية التي تضع مصلحة لبنان والشعب اللبناني على رأس أولوياتها، والعمل على إخراج لبنان من مشكلاته الاقتصادية والسياسية والاجتماعية، هي التي لا بد لها أن تنتصر لتكنس فلول الخراب والتدمير وأولهم «حزب الله»؛ ليعود لبنان كما عهدناه بلد الحريات والثقافة والفن والجمال والسياحة.

