عانى التونسيون من انقطاع متكرر في المياه خلال أشهر فصل الصيف التي تجاوزت درجات الحرارة فيها 45 درجة في بعض المناطق.
وقد بلغ عدد التبليغات عن انقطاع المياه في مناطق البلاد المختلفة في شهر تموز (يوليو) 598 تبليغا، حسب "خريطة العطش" التي يرسمها المرصد التونسي للمياه شهريا والتي وثقت أيضا 26 حراكا احتجاجيا مطالبا بالحق في الماء.
من جهته، أطلق المرصد الوطني للفلاحة صيحة فزع، محذرا من الخطر الذي بلغه الوضع المائي في البلاد بعد التراجع المتزايد في نسبة امتلاء السدود التي وصلت 23.1 في المئة من طاقة استيعابها في 13 أيلول (سبتمبر).
وذلك في تراجع مستمر عما كانت عليه في الفترة نفسها في السنوات الماضية التي عانى فيها التونسيون أيضا عطشا وشحا في المياه مع ارتفاع متواصل في درجات الحرارة يقابله نقص في كميات الأمطار.
"الوضع المائي حرج"، تقول وزارة الفلاحة في تونس التي صنفتها الأمم المتحدة عام 1995 ضمن قائمة الدول التي تعاني "ضغطا مائيا"؛ أي أن الطلب على المياه فيها يفوق الكميات المتوفرة منها.
ومع تعالي الأصوات المطالبة بالحق في المياه وتوسع نطاق التحذير من تداعيات أزمة مائية حادة، قال الرئيس، قيس سعيد، في لقائه بوزير الفلاحة والموارد المائية بداية شهر أيلول (سبتمبر) قبل الانتخابات الرئاسية التي فاز بها، وبعد زيارته لبعض السدود في البلاد، إن انقطاع المياه لم يكن نتيجة لانحباس الأمطار والجفاف "بل هو نتيجة لعدم التعهد لمدة سنوات طويلة بشبكات التوزيع والسدود إلى جانب أعمال إجرامية غايتها تأجيج الأوضاع الاجتماعية.
ويضع سعيد الوضع في إطار "التخريب المتعمد"، قائلا إنه "ليس من قبيل الصدفة على الإطلاق أن يكون الوضع وصل إلى ما وصل إليه قبل أسابيع قليلة من الموعد المحدد للانتخابات الرئاسية".
تونسيون بدون ماء منذ سنوات
أن تفتح الصنبور فلا ينزل منه ماء لساعات طويلة وأن يتكرر ذلك لأيام أمر منذر بالأزمة، لكنه يعد "رفاهية" لمن لم يروا صنابير مياه في بيوتهم، يلتقون عند صنابير الماء العمومية بحاوياتهم لجلب الماء.
"نريد شربة ماء نظيفة"، تقول سيدة من الشمال الغربي بتونس للمرصد التونسي للمياه.
شربة ماء نظيفة من دون عناء وبحث طويل وأثقال على الظهر هي طلب كثيرين في مناطق متفرقة من تونس شمالا وجنوبا.
جفت بعض العيون القريبة التي تعودوا جلب الماء منها طيلة حياتهم وانتشر التلوث في الآبار ومصادر المياه المشتركة فأصبحوا يقطعون مسافات أطول بحثا عن الماء.
وتوكل هذه المهمة في الغالب إلى النساء؛ يذهبن في مجموعات حاملات حاويات فارغة علهن يظفرن ببعض الماء.
ويحمل الحمار ما أمكن ويحملن الباقي على ظهورهن.
في محافظة جندوبة في الشمال الغربي يوجد سد بربرة، أحد أكبر السدود التونسية، لكن بالقرب منه توجد أيضا عائلات وتجمعات سكنية تعاني العطش منذ سنوات.
تقول رانية المشرقي لبي بي سي إن النساء في منطقتها في ريف جندوبة يضطررن أحيانا لقطع الحدود بين تونس والجزائر بحثا عن الماء. فالصنابير العمومية القريبة مغلقة منذ أكثر من عام.
خرجت رانية في احتجاج مع نساء قريتها للمطالبة بحقهن الأساسي في مياه الشرب على أمل أن تتحرك السلطات استجابة لطلبهن.
لكن قالت رانية لبي بي سي إن السلطات المحلية استدعتها للتحقيق بعد هذا التحرك بتهمة "تحريض الناس على الاحتجاج وإثارة البلبلة في منطقة حدودية". ولا تزال معاناة نساء المنطقة على حالها.
الفلاحون، خاصة الصغار منهم، يعيشون في قلق مستمر منذ سنوات بسبب الجفاف والنقص الحاد في الأمطار، إذ تجف محاصيلهم وتعطش وتجوع مواشيهم فتشح منابع دخلهم ويعيشون فوق العطش أزمة مالية خانقة. وتعني هذه الأزمة حتماً نقصا كبيرا في المنتوجات الفلاحية فتنعكس أزمة أمن غذائي وأزمة اقتصادية في كل البلاد.
فما الذي وصل بالبلاد إلى هذا الحال؟
تحدثت بي بي سي إلى الخبير في التنمية والموارد المائية بالمرصد التونسي للمياه، حسين الرحيلي، الذي قال إن استنزاف الموارد المائية والهدر الحاصل فيها وإخفاق السياسات المائية بالإضافة إلى غياب الثقافة المائية لدى المواطن هي أبرز أسباب الوضع المائي الحرج الذي تعيشه البلاد، خاصة في ظل التغيرات المناخية القصوى.
أسباب مناخية
يقول الرحيلي إن تونس عاشت تاريخيا ندرة في المياه. وكانت تعيش دورة مناخية متوازنة ومتوقعة نوعا ما؛ 3 سنوات ممطرة ثم 3 متوسطة التساقطات تليها 3 سنوات جافة.
كان التعامل مع مخزون المياه منتظما، تخزين في سنوات الوفرة، استخدام عادي في السنوات المتوسطة الأمطار وعودة على المخزون في سنوات الجفاف حتى تعاد الدورة.
لكن التغير المناخي أطال سنوات الجفاف ما أدى إلى استنزاف مخزون المياه بشكل لم يتم تعويضه، وهو الأمر الذي يرفع درجات الضغط المائي.
ويؤدي ارتفاع درجات الحرارة أيضا إلى زيادة نسبة المياه المتبخرة من السدود. وتقدر وزارة الفلاحة التونسية تبخر المياه يوميا من السدود في ارتفاع درجات الحرارة بين 600 و700 ألف متر مكعب.
هدر واستنزاف للموارد المائية
شدد تقرير المقرر الأممي الخاص المعني بالحق في المياه وخدمات الصرف الصحي، بيدرو أروخو-أغودو، عام 2022 على ضرورة "أن تمنح الحكومة التونسيّة الأولويّة لمياه الشرب بغض النظر عن مدى الربح الذي قد تحقّقه استعمالات أخرى كريّ الزراعات الموجهة للتجارة أو استخراج الفوسفات" و"أن تضع حدّا للاستغلال المفرط لطبقات المياه الجوفيّة إلى جانب غلق الآبار غير القانونيّة التي يتزايد عددها".
فالقطاع الفلاحي في تونس يستأثر بنحو 80٪ من استهلاك المياه ويوزع الباقي بين استهلاك المواطنين وبين القطاعات الأخرى كالصناعة والسياحة، بحسب الشركة الوطنية (التونسية) لاستغلال وتوزيع المياه.
ويشكل استهلاك قطاع الصناعة من المياه تحديا مزدوجا إذ تستهلك قطاعات كالنسيج والصناعات الكيميائية والتحويلية كميات ضخمة من المياه تستنزف المائدة الجوفية ثم تنتج أيضا تلوثا يطال ما تبقى.
ومثال ذلك ما يعانيه سكان قابس في الجنوب التونسي من أزمة حقيقية بسبب ما يستهلكه المجمع الكيمياوي من مياه من المائدة الجوفية لتحويل مادة الفوسفات وبسبب التلوث الكبير الذي ينتجه.
ويحصل السكان هناك على نوعية سيئة جدا من مياه الشرب، تدفعهم نحو شراء الماء المعدني المعلب إذا تمكّنوا من ذلك، بالإضافة إلى انقطاعات متكررة في المياه في بيوتهم.
في محاولة للتخفيف من أزمة مياه الشرب في قابس والمناطق المجاورة جنوبي البلاد أنشأت الدولة محطة "الزارات" لتحلية مياه البحر وانطلق استغلالها بداية تموز (يوليو) هذا العام.
وعبّر المقرر الأممي أيضا عن قلقه إزاء التسرّبات ودخول مواد ملوّثة الى شبكات مياه الشرب، ودعا السلطات التونسية إلى وضع خطّة لتجديد هذه الشبكات.
ويقول الرحيلي لبي بي سي إن اهتراء قنوات المياه يتسبب في هدر 25٪ من المياه المخصصة للشرب.
ولا تنكر السلطات التونسية أن شبكات المياه في البلاد تحتاج إلى ميزانية للصيانة والتجديد لما لحق بها من ضرر يسبب تسرب وهدر كميات هامة من المياه بالإضافة إلى وجود آبار عشوائية تعمق أزمة استنزاف الموارد الجوفية وسوء استغلالها. لكنها تقول أيضا إن "قطاع المياه يعاني نقصا فادحا في التمويل رغم دوره الرئيسي في ضمان قدرة الاقتصاد على الصمود والتكيف مع تغير المناخ." كما ورد في إعلان المنتدى المتوسطي الخامس للمياه" الذي استضافته تونس في فبراير 2024.
الحلول والبدائل
“كان يجب على تونس، عندما صُنفت في خانة الضغط المائي، إعادة النظر في سياساتها المائية وفي خياراتها الفلاحية والصناعية وبداية تنويع مصادرها المائية لكن الوضع لم يتجاوز الشعارات إلى الفعل وبقيت تونس تعيد إنتاج نفس السياسيات المائية"، يقول الخبير حسين الرحيلي لبي بي سي.
ويتابع الرحيلي مشيرا إلى أن الدولة التونسية تتبع حلولا مؤقتة لمواجهة الأزمة، كنظام القطع الدوري للمياه لتقسيط ما تبقى منه وتوزيعه على المواطنين. لكن الوضع يستوجب حلولا جذرية طويلة الأمد خاصة مع تفاقم أزمة تغير المناخ عاما بعد عام.
"ليست هناك خطط واضحة حتى اليوم بل هناك تناقض حتى بين الواقع والحلول المقترحة، إذ أن وزارة الفلاحة ما تزال تفكر في بناء سدود في الوقت الذي بدأ العالم فيه يتخلى عن السدود الكلاسيكية منذ بداية التسعينات" يقول الرحيلي
ومن الحلول البديلة التي يقترحها الرحيلي والتي نجحت تجربتها في دول أخرى:
*خزانات مغطاة لمنع التبخر وسدود جوفية بدل السدود التقليدية.
*تخزين المياه في أحواض كبيرة وضخها خلال مدة قصيرة اصطناعيا في المائدة المائية.
*استغلال الموارد من المياه غير التقليدية أي المياه المعالجة.
وفي هذا الخصوص يقول الرحيلي إن "290 مليون متر مكعب من المياه سنويا تهدر وتمضي إلى البحر والأودية لعدم توفر الموارد المالية اللازمة لمعالجتها طبقا للمواصفات التي تسمح بإعادة استغلالها، باستثمار مالي بسيط يمكن استغلال هذه المياه في القطاع الزراعي مثلا المستهلك الأكبر للمياه".
وكان وزير الفلاحة والموارد المائية السابق، عبد المنعم بلعاتي، قد قال في كلمة بالبرلمان في تموز (يوليو) هذا العام إن تونس "انطلقت في قطع أولى الخطوات لدخول مجال الاستمطار" (محاولة استجلاب المطر صناعيا) وتعمل على تشكيل لجنة "مقننة" للإشراف على هذه العملية. وقال بلعاتي إن تونس "بدأت في دراسة حلول فنية لتقليص نسب تبخر المياه من السدود".
وأكد الوزير السابق أن الدولة تعمل على بناء ستة سدود تقليدية جديدة.
وإلى أن تفعّل الحلول المقترحة والممكنة، يبقى كثير من التونسيين من بين نحو 2.2 مليار شخص يفتقرون إلى مياه الشرب التي تُدار بطريقة مأمونة، أحصاهم تقرير للأمم المتحدة في آذار (مارس) 2024، رغم أن الأمر يعد حقا من حقوق الإنسان الأساسية حسبما ينص القانون الدولي لحقوق الإنسان.
ويعاني ما يقرب من نصف سكان العالم من شح شديد في المياه لجزء من العام على الأقل حسب تقرير الهيئة الحكومية الدولية المعنية بتغير المناخ.