لم ألتقِ جمانة أبداً، كنا نتواصل أساساً عبر الهاتف والإنترنت. جمانة مقيمة في قطاع غزة، وأنا في "الخارج". كتبت إليها بعد أيام على بداية القصف الإسرائيلي على غزة حين أثارت انتباهي صورتها على حسابها الشخصي، كانت تلبس فستاناً أحمر وتضع يدها على بطنها المتكوِّر. كانت حاملاً في الشهر التاسع.
للحظة تمنيت لو أن الصورة قديمة، فالتحذيرات كانت تتوالى من الضغط المتزايد الذي بدأت تعانيه مستشفيات القطاع. لكن الصورة كانت حديثة، فباتت جمانة هي القصة.
جمانة هي واحدة من "خمسين ألف امرأة حامل عالقات في النزاع في غزة والمتوقع أن يلِدن 5,500 مولود خلال الثلاثين يوماً المقبلة" بحسب صندوق الأمم المتحدة للسكان. وهنّ "يواجهن تحديات هائلة في الوصول إلى خدمات الولادة الآمنة".
بعد يومين على بدء القصف الإسرائيلي على القطاع، خرجت جمانة من منزلها في مدينة غزة مع ابنتها تولين، البالغة من العمر أربع سنوات، وانتقلت إلى منزل أقارب لها عسى أن يكون أكثر أمناً. لم تأخذ معها سوى قطعة ملابس واحدة، وعلبة حليب وحقيبة صغيرة لاستقبال طفلتها الثانية.
أخبرتني أن طريقة استعدادها للولادة اختلفت عن المرة السابقة. فبدل المشي في الخارج تتمشى في غرفة ضيقة "لأننا غير قادرين على الخروج من المنزل حتى لإحضار الطعام، بسبب القصف" تقول لي. والأطفال لا يسمح لهم بالخروج من المنزل أيضاً "لذلك نعطيهم بعض الحلويات بين وقت وآخر، للتخفيف عنهم".
"ادعي لنا أن نبقى بخير حتى الغد"
كنا نتواصل يومياً، رغم صعوبة الاتصالات معظم الأوقات، واستحالتها أحياناً. حدثتني مراراً عن انقطاع الكهرباء والإنترنت ونقص المياه، عدا خوف وقلق ينهشان الروح كل يوم.
وقالت لي في رسالة صوتية: "كل ما أفكر فيه قبل أن أذهب للنوم، هو أن أستيقظ في اليوم التالي ونحن لا نزال على قيد الحياة. أدعو الله طوال الوقت أن يحمينا وينقذنا وألّا يكسر قلوبنا".
كثيراً من الأوقات كنت أفقد الاتصال بها يوماً أو يومين، ولا أجد طريقة لمعرفة إن كانت بخير أم لا. إحدى المرات أجابتني بعد يومين من الصمت بأن "الوضع كان صعباً، لم نَنَم طوال الليل. القصف كان شديداً، ذهبنا إلى مكان آخر. خدمة الإنترنت شبه مقطوعة". وتتابع في رسالة أخرى "ادعي لنا أن نبقى بخير حتى الغد".
"الأطفال في الحضانات سيموتون فور انقطاع الكهرباء"
"فقدت ابني الذي انتظرته ثماني سنوات"
في الثالث عشر من أكتوبر/تشرين الأول أخبرتني جمانة أنها بدأت تشعر بآلام المخاض. لم يعد وارداً أن تضع مولودتها في "مستشفى الشفاء" الذي يرزح تحت ضغط هائل من أعداد القتلى والجرحى، نتيجة للقصف الإسرائيلي المتواصل. اتجهت جمانة إلى "مستشفى العودة" في النصيرات، وسط القطاع. قالت لي إنها حين دهمها وجع المخاض، لم تكن تعرف إن كانت ستجد أحداً يأخذها إلى المستشفى، "فسائقو سيارات الأجرة خائفون وسيارات الإسعاف منشغلة، ولا وقت لامرأة على وشك الولادة".
مساء ذلك اليوم تلقيت من صديق في غزة بياناً لمنظمة "أطباء بلا حدود" فحواه أن إسرائيل أمهلت "مستشفى العودة" ساعتين لإخلائه قبل قصفه. لم أعرف إن كان المستشفى نفسه الذي كانت جمانة فيه، وبدت الدقائق أثقل من أي وقت مضى. فشلت في الاتصال بجمانة، ففكرت ملياً، وترددت قبل الاتصال بشقيقها.
في تلك اللحظة، قبل أي شيء، كنت أماً، غير قادرة على تخيل ماذا يعني أن تستقبل أمّ مولودتها وسط كل هذا الخوف وقلة الحيلة.
لم تكن في "مستشفى العودة"... وولَدت جمانة طفلتها تلك الليلة، وسَمَّتها تالية.
"بكاؤها يعني أننا لا زلنا على قيد الحياة"
تصف لي ساعات المخاض بأنها كانت صعبة ومرعبة. وقالت لي في اليوم التالي: "حدث قصف عنيف في منزل في الجوار. كان الدويّ قوياً لدرجة اعتقدت أن القصف أصاب المستشفى نفسه. وصل جرحى وضحايا، كان الصراخ من كل اتجاه، وأنا في آلام المخاض أسمع دويّ قصف متواصل. لكنني أردت أن ألِد تحت أي ظرف".
أثناء الولادة، كان أمام جمانة هدف واحد هو "البقاء على قيد الحياة مع مولودتي في ظل القصف المنتشر في كل مكان داخل قطاع غزة. الحمد لله كُتبَت لنا حياة جديدة. كنت أفكر أيضًا في ابنتي الأولى وخائفة عليها لأنها كانت بعيدة عني".
تصف جمانة شعورها بـ "الصدمة" بعد المخاض. لم يكن هناك سرير متوافر لتستلقي عليه. وبعد انتظار، بالكاد وجدوا لها سريراً حشروه في غرفة تتسع لسريرين فقط. وتقول عن ذلك: "كنت محظوظة لأحظى بأحدهما، بينما استلقت نساء أخريات على الكنبة والأرض في ممر المستشفى، بعد الولادة مباشرة".
لم ينته الأمر هنا، على حد وصفها، بل اضطررت لنزول السلم من الطابق الرابع مع مولودتها بعد تعطل المصعد بسبب مشكلة في الطاقة.
أرسلت إليّ في اليوم التالي فيديو لوليدتها، كانت تحضنها في سيارة الأجرة ملفوفة بثوب أبيض. وفي رسالة نصّية تخبرني أنها أمضت ساعة في البحث عن سيارة أجرة. وتقول: "لم يقبل أي من السائقين أخذنا. خافوا بعدما وقع قصف على مكان قريب في الصباح". وتضيف بنبرة لم تخل من تهكّم: "في النهاية وجدنا سيارة تقلّنا، لكن السائق طلب بدل أجرة أعلى ولم ينزلنا أمام البيت".
وتقول عن ابنتها الجديدة: "تاليا هي أملي في هذه الحياة المليئة بالحروب والقتل. بكاؤها يردّ الروح، لأنه يعني أننا ما زلنا جميعاً على قيد الحياة".