فيما كان مرتزقة مجموعة "فاغنر" يسابقون الوقت بعدما استولوا على مدينة روستوف الاستراتيجية في الجنوب الروسي للوصول بسرعة الى العاصمة موسكو عبر الطريق السريع "إم -4" كتبنا صبيحة يوم السبت هنا ان الغموض كبير، وما نراه ليس بالضرورة الحقيقة. واستنتجنا أن الانتظار لمعرفة كيفية تطور الأمور أفضل من التنبؤ المسبق نظرا لغرابة الموقف الذي حصل منذ ليل الجمعة – السبت الماضيين، مع اعلان قائد "فاغنر" يفغيني بريغوجين تمرده على القيادة في موسكو، و قيامه على رأس قواته بالاستيلاء على روستوف المعتبرة المقر الرئيسي للقوات الروسية في أوكرانيا، ومقر الجيش الروسي المركزي لعموم منطقة الجنوب الروسي. ومع قرب وصول قوات بريغوجين الى ضواحي موسكو الكبرى، حصل ما لم يكن بحسابات أي مراقب دولي متخصص في الشأن الروسي، فجرى عقد صفقة بين الكرملين وبريغوجين بواسطة الرئيس البيلاروسي فيكتور لوكاشنكو، أوقف بموجبه بريغوجين زحفه على العاصمة وانهى تمرده في مقابل تعهد بعدم ملاحقته ورجاله قانونياً، وانتقاله معهم من مواقعهم في روسيا وأوكرانيا الى الأراضي البيلاروسية بضمانة من لوكاشنكو . ولم يكشف عن بنود أخرى متصلة بالصفقة التي نظن انها كانت أوسع نطاقاً من ذلك، وبعض بنودها غير المعلنة لاسباب تتعلق بـ"هيبة" السلطة في الكرملين وعلى رأسه الرئيس فلاديمير بوتين من قبيل احداث تغييرات على مستوى القيادة العسكرية بدءاً من اقالة وزير الدفاع سيرغي شويغو ، ورئيس اركان الجيش الروسي فاليري جيراسيموڤ و استبدالهما بأسماء جديدة لاسيما بعد فشلا في إدارة الحرب على أوكرانيا بإقرار من جميع المراقبين العسكريين الدوليين المتحصصين.
طبعا ثمة بنود أخرى تتعلق بمصير رجال "فاغنر" الآخرين نظراً لان اعدادهم كبيرة وتصل الى حوالي ٥٠ الفاً منتشرين في روسيا أوكرانيا ومناطق عدة من العالم. كما لم يعرف مصير "شركة "فاغنر" نفسها، والأهم ما اذا كان ابعاد بريغوجين الى بيلاروسيا مقدمة لتصفيته في ما بعد. انها صفقة غريبة، و غرابتها تنم عن النواحي الغامضة و السرية التي تضمنتها. و قد تابعنا الكثير من الآراء التي تزاحمت على مواقع التواصل الاجتماعي، وشبكة النت، ومحطات التلفزة العالمية، و مواقع كبريات الصحف، و مراكز الدراسات الدولية وقد حوت الكثير من التحليلات المتناقضة حول من ربح ومن خسر وحول مآلات التمرد، و تردداته المستقبلية على سلطة بوتين، وتماسك الدولة العميقة في الكرملين. وحقاً انها آراء وتحليلات مربكة، ومحيِّرة للمراقبين. كلها جائزة ما دامت المعلومات شحيحة. لكن نتوقف عند نقطتين رئيسيتين:
الأولى أن الرئيس بوتين واجه أخطر تحد لسلطته منذ توليه إياها قبل 21 عاماً . وقد بدا في الاداء اقل صلابة و تماسكاً و قدرة على الإمساك بحبال الموقف مما يعتقد، وخصوصاً ان التمرد تمدد بسرعة قياسية وغريبة، و لنقل بتواطؤ من تشكيلات الجيش، وربما المخابرات، و غيرها على الأرض، مما سهل له الانطلاق في سباق نحو العاصمة التي فوجئنا انها لم تكن تمتلك حامية ذات وزن، مما اضطر فريق بوتين الى حفر الطرقات، ونشر حافلات و شاحنات و جرارات زراعية لابطاء تقدم رتل "فاغنر" على الطريق "إم -4". و الغريب أيضاً ان مدينة موسكو تعاملت مع الحدث و أن الاقتحام حاصل. وبدا لافتاً غياب الرئيس عن الصورة، عدا الكلمة المسجلة التي وجهها ظهراً، متهماً المتمردين بالخيانة و متوعداً إياهم بالقصاص الشديد، فلم يظهر شخصياً في المدينة،فيما افيد ان قيادات رئيسية في الكرملين انتقلت بعائلاتها الى مدينة بطرسبرغ شمالاً. ومن هنا تساءل المراقبون، أين الجيش؟ وأين سلاح الطيران؟ وأين كل الأجهزة الأمنية الكبيرة التي تمسك بروسيا الاتحادية؟ ولم يظهر في الصورة بـ"السيلفي" عبر "تيك توك" و "تيليغرام" سوى رمضان قديروف بقوات شيشانية انتشرت على طريق سريع قيل إنه يوصل الى روستوف ! فهل كانت قطعات مهمة من الجيش والمخابرات متعاطفة او متواطئة مع بريغوجين؟
ثانياً: تمت صفقة نظن أن معظم بنودها غير معلنة، و أهميتها أن بريغوجين الذي كان في الصباح خائناً، ومهدداً بالقصاص الشديد أفلت من العقاب (اقله الان) انتقل ليلاً بقواته الى بيلاروسيا على الحدود مع بولندا وأوكرانيا. و بالتالي فإن هيبة الكرملين وعلى رأسه فلاديمير بوتين تضررت في مكان ما، وبدأت تطرح أسئلة جدية حول مدى امساكه بخيوط السلطة والقرار كما كان يعتقد سابقاً. فحتى لو جرى قتل بريغوجين في مرحلة لاحقة، ثمة تطور حصل على مستوى السلطة والدولة العميقة وأجهزتها نجهل مداه في هذه اللحظة. ويمكن ان تذهب الأمور في احد اتجاهين، الأول ان تتسبب الصدمة بتقوية قبضة بوتين على السلطة، و تماديه في التشدد الأمني والقمع، والثاني أن يكون بوتين قد ضعف فعلاً، و نشأت حوله مراكز قوى بعيدة عن الأضواء مع إعادة توزيع السلطة الفعلية حول رئيس لم يعد "الربّان" الوحيد على متن السفينة. بمعنى آخر قيادة جماعية ستظهر أسماء اقطابها مع الوقت تقطع مع قيادة الشخص الواحد كما بدا لنا في المرحلة السابقة.
في مطلق الأحوال، ما حدث ليس بالحدث العابر. ففي حال تجنبت روسيا صراعاً خطيراً ام ان التمرد كان الغطاء المطلوب لخلق توازن جديد على مستوى السلطة في الكرملين، فإن ما حصل يهم العالم بأسره نظراً لتداعياته الخطيرة. ومع ذلك نقول انه اغرب تمرد انتهى بأغرب صفقة!