غيّر الزلزال الذي ضرب الجنوب التركي والشمال السوري المعطيات السياسيّة في المنطقتين، خصوصا لجهة استكمال تركيا للمنطقة العازلة التي قررت إقامتها بعمق يراوح بين 30 و35 كيلومترا داخل الأراضي السوريّة. ستنهمك تركيا، المقبلة على انتخابات رئاسيّة متوقّعة في أيّار – مايو المقبل، في عملية إعادة بناء المناطق المنكوبة في عشر من ولاياتها. دمّر الزلزال معظم البنية التحتية في تلك الولايات التركية. ستتطلب إعادة تلك البنية إلى وضعها الطبيعي العشرات من المليارات من الدولارات.
كشف الزلزال أنّ تركيا، التي تعاني أصلا من أزمة اقتصادية، ليست بتلك العظمة التي يتصورها الرئيس رجب طيب أردوغان وأنّ عليه تقليص تطلعاته إلى لعب دور مهيمن في المنطقة… وصولا إلى ليبيا. أكثر من ذلك، سيكون على أردوغان إعادة النظر في خططه للسنة 2023 والدور التركي إقليميا بعدما كان بنى الكثير على انتهاء مفاعيل المعاهدات الدولية الموقعة في 1923 والتي فرضت على تركيا، في ضوء انهيار الدولة العثمانيّة، قيودا في مجالات عدّة من بينها السيطرة على الملاحة في ممر البوسفور.
جعل الزلزال أردوغان يكتشف كم تركيا في حاجة إلى العالم، خصوصا إلى الولايات المتحدة وأوروبا، في حال كانت تريد بالفعل أن تكون دولة محترمة ذات شأن في المنطقة وخارجها… بدل السعي إلى مناورات لا فائدة تذكر منها. من بين هذه المناورات شراء شبكة صواريخ مضادة للطائرات من نوع “إس – 400” الروسيّة في محاولة لكسب ودّ فلاديمير بوتين. فعل ذلك، على الرغم من أن تركيا عضو أساسي في حلف شمال الأطلسي (ناتو).
في الوقت ذاته، يستطيع رئيس النظام السوري بشّار الأسد تنفّس الصعداء في ضوء زوال كابوس اضطراره إلى مصالحة أردوغان والرضوخ في الوقت ذاته لشروط معيّنة واتفاق جديد يكون نسخة مطوّرة لاتفاق أضنة الموقّع في العام 1998. سمح ذلك الاتفاق الذي مهّد لتسليم النظام السوري عبدالله أوجلان، زعيم حزب العمال الكردستاني، لتركيا بدخول القوات التركيّة الأرضي السورية متى دعت الحاجة إلى ذلك. فوق ذلك كلّه، تخلّى النظام السوري رسميا عن المطالبة بلواء الإسكندرون الذي كان يسميه “اللواء السليب”.
لن يطول تنفس بشار الأسد الصعداء طويلا وذلك مهما حاول نظامه توزيع أنباء عن اتصال زعماء المنطقة والعالم به. كلّ ما في الأمر أنّ اهتمام العالم، بما في ذلك الدول العربيّة القادرة، بسوريا سيزداد. لكنّ هذا الاهتمام سيكون من زاوية إنسانيّة وليس من زاوية إعادة تأهيل لنظام يعرف الصغير والكبير أنّه في حرب مع شعبه ولا يمتلك حريّة قراره. ليس النظام السوري، بتركيبته الحاليّة، سوى تابع لـ”الجمهوريّة الإسلاميّة”، خصوصا بعد غرق فلاديمير بوتين في الوحول الأوكرانيّة واضطراه، من أجل متابعة حربه على الشعب الأوكراني، إلى الارتماء في الحضن الإيراني.
من سيتنفس الصعداء فعلا هم أكراد سوريا الممثلون بـ”قوات سوريا الديموقراطية” (قسد) الذين ستخفّ الضغوط التركية عنهم ولن يعودوا مجبرين في الوقت ذاته على الأخذ والردّ مع النظام السوري. ستزداد علاقة “قسد” بالأميركيين قوّة وسيتوسع هامش المناورة لديهم بفضل العلاقة بالأميركيين من جهة وتراجع الضغوط التركيّة من جهة أخرى.
غيّر الزلزال الطبيعي المعطيات السياسية، إن تجاه تركيا ورجب طيب أردوغان وموقعه السياسي ودور تركيا الإقليمي، وإن تجاه النظام السوري الذي لا يستطيع التعاطي مع مستقبل سوريا أو أن يكون جزءا من هذا المستقبل. بات مصير النظام السوري رهينة لمصير النظام الإيراني والملفات الإقليمية المتنوعة التي ارتبط بها.
عاجلا أم آجلا، سيعود العالم الغربي إلى الاهتمام بكيفية التعاطي مع إيران ومع الوضع الداخلي فيها ومع برنامجها النووي. سيعود إلى الاهتمام بالدور التخريبي الذي تلعبه في العراق وسوريا ولبنان واليمن بأدوار أخرى في مختلف أنحاء العالم، خصوصا بعد تحولها إلى شريك لروسيا في الحرب الأوكرانيّة.
سيعود العالم إلى الاهتمام بالميليشيات الإيرانية والوجود الإيراني في الجنوب السوري وما إذا كانت “الجمهوريّة الإسلاميّة” ستردّ على الضربة الإسرائيلية الأخيرة التي استهدفت هدفا عسكريا مهمّا، قد يكون مرتبطا بإنتاج صواريخ باليستيّة، في أصفهان. ماذا إذا ردّت إيران وكيف سيكون الردّ عليها، علما أن معظم المعلومات المتوافرة تشير إلى تنسيق أميركي – إسرائيلي في شأن كلّ ما له علاقة بما يجري في داخل “الجمهوريّة الإسلاميّة” ونشاطاتها خارج حدودها أيضا.
لا شكّ أن الزلزال الذي ضرب جنوب تركيا وشمال سوريا كان مأساة إنسانية ضخمة طغت على بقية الأحداث في العالم. لكنّ هذا العالم سيعود إلى مشاكله الأخرى، بما في ذلك المنطاد الصيني الذي كان يحلّق في الأجواء الأميركيّة. تبيّن أن هذا المنطاد جزء من شبكة صينيّة تستهدف الاطلاع على ما يدور على الكرة الأرضية، خصوصا في الأراضي الأميركيّة.
كان الزلزال مأساة ذات طابع إنساني، لكنه كان أيضا ذا أبعاد سياسية على الرغم من العدد الكبير للضحايا، وهو عدد مرشح لأن يصل إلى نحو عشرين ألف قتيل وعشرات الآلاف من المشرّدين الذين فقدوا منازلهم. ثمة أحياء في مدن عدة، في تركيا وسوريا، زالت نهائيا عن الخريطة.
سيطرح الزلزال سؤالا يتعلّق بوضع تركيا ومكانتها في المنطقة والعالم في ضوء اضطرارها إلى أخذ حجمها الحقيقي سياسيا واقتصاديا وحتّى عسكريا. قضى الزلزال على أحلام يقظة لرجب طيب أردوغان الذي كان يعتقد أن سنة 2023 بداية جديدة لدور تركي أكثر نشاطا في ضوء التخلص من قيود فرضتها معاهدات وقّعتها تركيا قبل قرن.
سيتوقف الكثير على أمرين. أولهما انتصار الرئيس التركي الحالي في انتخابات أيّار – مايو المقبل. الأمر الآخر قدرة رجب طيب أردوغان على التعاطي مع الواقع بعيدا من الأوهام. يشمل ذلك أن يكون الرئيس التركي، على سبيل المثال، أكثر واقعية في طريقة تعامله مع اليونان بدل أن يعتبر التصعيد معها جزءا من حملته الانتخابيّة والتعبئة الداخلية.