على الرغم من الأدبيّات المضبوطة التي رافقت وقائع الأيّام الصينيّة-السعوديّة والصينيّة-العربيّة والصينيّة الخليجيّة الثلاثة في الرياض، إلّا أنّ الإدارة الأميركيّة، قبل غيرها، أدركت أنّها "رسالة استراتيجيّة" كتبها ولي العهد السعودي بـ "عناية فائقة" وبعث بها إلى البيت الأبيض وإلى الكونغرس الأميركي، بعد "رسالة تنبيه" كان قد أوصلها، في بداية آذار (مارس) الماضي، الى الرئيس جو بايدن شخصيًّا، من خلال مقابلة أجرتها معه مجلّة "ذي أتلانتيك" وأعلن فيها أنّه لا يهتم إذا فهمه بايدن خطأ، قائلًا: "يعود لبايدن التفكير بمصالح أميركا. ينبغي على البلدين الا يتدخلا في الشؤون الداخلية لبعضهما البعض".
وكان مقدّرًا أن تُنهي الزيارة التي قام بها بايدن للمملكة العربيّة السعوديّة، في تموز (يوليو) الماضي، على إيقاع تداعيات الغزو الروسي لأوكرانيا على العالم عمومًأ وعلى الغرب خصوصًا، النفور الذي خيّم على العلاقات بين "الحليفين التاريخيين" منذ حلّ الديموقراطي بايدن مكان الجمهوري دونالد ترامب في البيت الأبيض، لكنّ "التعديلات البسيطة" سرعان ما تقهقرت، عندما استشاطت واشنطن غضبًا من قرار منظمة "أوبك بلاس" تخفيض إنتاج النفط، في تشرين الأول (أكتوبر) الماضي، محمّلة المسؤوليّة للمملكة العربيّة السعوديّة، مهدّدة بمراجعة السياسة الثنائيّة، بتنسيق لصيق بين البيت الأبيض والكونغرس الأميركي.
ولكنّ هذه المراجعة التي هدّدت واشنطن بها سارعت إليها الرياض نفسها، بالتنسيق الوثيق مع المنافس اللدود للولايات المتحدة الأميركية، فكانت اتفاقية شراكة استراتيجيّة بين السعوديّة التي تريد أن تكون لاعبًا فاعلًا في العالم المتعدّد المرجعيات وبين الصين التي تفتش عن شريك موثوق وقادر ومستقر يكون بديلًا واقعيًّا لإيران التي لم تعرف أن تترك مقاعد الإحتياط بعد، بسبب ضعفها التكنولوجي، من جهة أولى، وبسبب عجزها عن الإنخراط في العالم الحديث، من جهة ثانية، وبسبب معركة كسر العضم التي تخوضها مع شعبها المنتفض، من جهة ثالثة!
وعلى الرغم من كلّ المحاولات، عجزت الولايات المتحدة الأميركيّة عن التخفيف من أهميّة ما حصل في الرياض، بين أكبر دولة منتجة للنفط وأكثر دولة استهلاكًا له!
وقد بدا المسؤولون الأميركيّون، وهم يعدّدون المزايا التي تقدّمها واشنطن للسعوديّة، كأنّهم يعيدون تموضع بلادهم، بحيث ينقلونها من موقع "المهدّد" إلى موقع "المُغري"!
وفي اعتقاد كثيرين، إنّ إعادة التموضع الأميركي هذه، هي جزء أساسي من أهداف "الرسالة الإستراتيجيّة" التي بعثت بها القيادة السعوديّة الى البيت الأبيض. صحيح أنّ الرياض لا تناور في علاقتها مع الصين، إذ إنّها تريد شراكة مع ثاني أكبر اقتصاد في العالم، وترفض تركها حكرًا على إيران التي لا تثق بنيات واشنطن تجاهها، ولكنّ الصحيح أكثر أنّ القيادة السعوديّة تعرف أنّ الولايات المتحدة الأميركيّة تبقى الدولة الأولى في العالم ولا يمكن الإنفصال عنها، كأنّ شيئًا لم يكن!
الأهم في ما تُقدم عليه القيادة السعوديّة، لا يكمن في هذا "الكباش الإستراتيجي" الذي تخوضه مع القوى العظمى في العالم، من دون أن تُعير أيّ اهتمام لـ "نظريات المؤامرة"، بل في أنّها تذهب، بهدوء، إلى أهدافها، وهي تُراعي في ما تفعل مصلحتها ومصلحة شعبها، بحيث تسعى الى مراكمة الأرباح، من خلال "المواجهة المضبوطة"، على عكس ما تفعله جارتها الكبرى إيران التي تراكم الخسائر وتلغي نفسها من خريطة التأثير الاقتصادي، على الرغم من غناها، وتقحم شعبها في جحيم لا تنطفئ ناره!
وبيّنت السعوديّة أنّه، خلافًا للدعاية الإيرانيّة التي صدّعت المنطقة، يمكن للدول الواثقة من نفسها أن تُدافع عن مصالحها، في علاقاتها مع الدول الكبرى، من دون أن تكون إمّا في صراعات مكلفة معها أو خاضعة لإملاءاتها!
كما أظهرت القيادة السعوديّة أنّ النظام العالمي الجديد لا يقيس أهميّة الدول انطلاقًا من قدراتها التخريبيّة أو إمكانياتها العسكريّة أو طموحاتها التوسعيّة، بل من إمكانياتها الإقتصاديّة وقابليّتها على أن تكون جزءًا لا يتجزّأ من المنافسة وإصلاح الخلل!
وفي وقت تسقط الدول التي يهيمن عليها النظام الإيراني في عصر غير مسبوق من الإنحطاط، يطلّ ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان واثقًا بالمستقبل، فيقول للمجتمعين في قمة الرياض العربيّة-الصينيّة التي ذكر فيها كلّ الدول التي تعاني الأمرّين، باستثناء لبنان:" نؤكّد للعالم أنّ العرب سوف يسابقون على التقدّم والنهضة، مرّة أخرى وسوف نُثبت ذلك".
لقد دلّت التجارب الصينيّة والفنزويليّة والكوبيّة والسوريّة وغيرها أنّ العلاقات الدوليّة، حتى تنتج إيجابيات، لا يجب أن تمليها سياسات المواجهة، بل سياسات التنافس.
ولا يمكن للدول أن تكون جزءًا من أيّ تنافس إذا كانت قد تحوّلت الى خرابة، لأنّها لا تصلح في نظر أيّ دولة كبرى، سوى لتكون مادة للإستغلال، وفق ما يشكو منه الإيرانيّون، إذ إنّهم يبيعون ما يمكنهم إنتاجه من نفط لكلّ من الصين والهند، بأبخس الأسعار!
وعليه، فإنّ دعوة "فريق الممانعة" في لبنان إلى الإقتداء بالسعوديّة، بعد سنوات من قدحها وذمّها، تحتاج، بادئ ذي بدء، ليس إلى أن يعيد اللبنانيّون بناء دولتهم وإعادة الإعتبار الى مزاياهم التفاضليّة، فحسب بل أن يحرّروا، بادئ ذي بدء، الدولة من قبضة...الدويلة!