تثير زيارة الرئيس الأميركي جو بايدن للمنطقة العديد من ردود الفعل والتعليقات في مجمل الصحافة والإعلام في الولايات المتحدة والعالم العربي وإسرائيل والإقليم عموماً. إنها حقاً زيارة مهمة لأنها تحمل ظاهرياً في طياتها ملامح تغيير دراماتيكي في السياسة الأميركية في منطقة الشرق الأوسط.
الزيارة تشكل، برأي البعض، إعلاناً صريحاً عن تحول في مقاربة إدارة الرئيس جو بايدن العلاقات مع دول المنطقة، لا سيما مع الحلفاء التاريخيين الذين ساءت علاقات البيت الأبيض معهم إلى حد بعيد، بدءاً من عهد الرئيس الأسبق باراك أوباما الذي راهن على ما يسمى بـ"الخيار الإيراني"، ولم يعر اهتماماً يذكر للعلاقة مع حلفاء الولايات المتحدة في المنطقة، ولم يراع مصالحهم القومية والأمنية.
طبعاً ساءت العلاقات أكثر مع بداية عهد الرئيس بايدن الذي بنى جزءاً من دعايته الانتخابية في السياسة الخارجية على استعداء المملكة العربية السعودية وقيادتها. ونذكر أن بايدن الذي خلف دونالد ترامب أعاد إلى البيت الأبيض معظم المستشارين والمسؤولين الذين عملوا في إدارة الرئيس باراك أوباما، إلى حد أن أطلقت على رئاسة بايدن تسمية "ولاية باراك أوباما الثالثة"!
بعيداً من العودة إلى التاريخ المتذبذب في العلاقة بين الإدارة الأميركية والحلفاء في المنطقة، لا بد من الإشارة إلى أن هدفين حددهما الرئيس بايدن في بداية ولايته الرئاسية مطلع عام 2021 فشلا فشلاً ذريعاً. أولاً محاولة إعادة إحياء الاتفاق النووي الإيراني لعام 2015، إذ لم تسفر المفاوضات في فيينا التي امتدت أكثر من عام عن إعادة إيران إلى التزاماتها حيال البرنامج النووي والقيود التي فرضها الاتفاق. فقد واظبت طهران على خرق بنود الاتفاق الرئيسية، وصولاً إلى رفع منسوب تخصيب اليورانيوم إلى مستويات باتت تلامس نسب الاستخدام العسكري. كما أن إيران قامت بتشغيل أجهزة طرد مركزية من الجيل المتقدم، وصارت تمتلك مخزوناً من اليورانيوم العالي التخصيب (فوق 60%) من الممكن إعادة تخصيبه لرفع النسبة إلى 90%، بمعنى آخر بدأت طهران عسكرة البرنامج النووي الإيراني علناً. وقد فعلت الإدارة الأميركية الحالية المستحيل لإعادة إيران إلى الالتزام بالاتفاق النووي وفشلت، حيث بدا للعديد من العواصم المعنية أن إيران تراهن على الوقت من أجل التوصل إلى إنتاج قنبلتها النووية الأولى.
أما الهدف الثاني الذي فشلت إدارة بايدن في تحقيقه، فقد كان إعادة النظر في العلاقات مع عدد من الدول الحليفة في المنطقة، وفي مقدمها المملكة العربية السعودية، من خلال المراهنة على قضية مقتل الصحافي جمال خاشقجي، والحملة التي شنتها أوساط يسار الحزب الديموقراطي الأميركي خلال الحملة الانتخابية، فضلاً عن الحملة التي هدفت إلى تحميل السعودية مسؤولية الحرب في اليمن.
جرى التضييق على مبيعات الأسلحة الهجومية إلى السعودية، ثم رفعت جماعة الحوثي عن لوائح الإرهاب الأميركية، ثم اشتعلت الضغوط على الرياض وحتى على دولة الإمارات العربية المتحدة تحت شعار الحرب في اليمن. وليس سراً أن بايدن والفريق الذي أحاط به كان يسعى إلى التضييق على ولي العهد السعودي الأمير محمد بن سلمان وعزله دولياً. هذا الهدف فشل بالكامل، وأثبتت الوقائع أن من يشعل الحرب في اليمن هو إيران التي تقف خلف الانقلاب الحوثي الدموي، وترفض حتى الآن تثبيت الهدنة التي جرى الاتفاق عليها بهدف الانتقال إلى مرحلة الحل السياسي. أما التضييق على السعودية والإمارات ومحاولة عزل القيادة الجديدة في السعودية فقد فشلا، إلى حد أن تأتي زيارة الرئيس بايدن للسعودية لكي تشكل إعلاناً شبه صريح عن فشل السياسة التي اتبعت خلال أكثر من ثمانية عشر شهراً، ولتشكل ربما تحولاً مفصلياً في مقاربة العلاقات بين واشنطن وحلفائها في المنطقة.
شكل غزو روسيا جارتها الأصغر أوكرانيا تاريخاً مفصلياً لتحول دراماتيكي يشهده العالم اليوم. والرئيس الأميركي الذي يبدأ جولة شرق أوسطية، يعرف أن الدول التي سيزورها، أو يجتمع مع قادتها في قمة جدة، هي نفسها التي لم تلتحق بالتحالف الغربي لمحاصرة روسيا ورفضت أن تنحاز ضد روسيا خلال التصويت عند طرح قضية حرب أوكرانيا.
حتى إسرائيل، الحليف الأول لأميركا في المنطقة، عملت ما بوسعها لكي تتجنب الصدام مع روسيا. من هنا، ومع أن الزيارة الرئاسية الأميركية تحتل موقعاً متقدماً من اهتمامات المنطقة حالياً، ويمكن أن تمثل بالنسبة إلى الحلفاء كالسعودية نوعاً من الاعتراف بخطأ المقاربة السابقة للرئيس بايدن، فإن ثمة مناخات تبدو، على عكس المتوقع، باردة تجاه زيارة بايدن. بمعنى آخر، يتلمس المراقب شيئاً من البرودة في التعامل مع الزيارة، لا سيما من قبل الحلفاء العرب. فهؤلاء يعرفون أن هدف الرئيس الأميركي إقامة تحالف دفاعي إقليمي بشراكة الولايات المتحدة ومظلتها العسكرية، تداركاً لاحتمالات إطالة أمد الحرب في أوكرانيا، فضلاً عن الاحتمال الكبير بأن لا يتم إحياء الاتفاق النووي الإيراني.
ويعرف قادة المنطقة أن من أهداف الرئيس الأميركي الأساسية من الزيارة التصدي لتوسع العلاقات بين الصين ودول المنطقة، حيث تحتل الأولى صدارة الشركاء التجاريين الدوليين مع الدول المشار إليها. لكن أكثر ما يهم بايدن، هو منع تطور العلاقات مع الصين، لتصبح استراتيجية تشمل التكنولوجيا المتقدمة والمجال الدفاعي العسكري. لكن مهمة الرئيس الأميركي صعبة للغاية بالنظر إلى أن دول المنطقة، لا سيما الخليجية، تقوم على تعددية العلاقات الاستراتيجية.
في هذا الإطار، لا بد من التوقف عند وجهة نظر سعودية يقدمها الأستاذ الجامعي والمفكر تركي الحمد في تغريدة له على موقع "تويتر" قبل أيام من وصول بايدن. يقول: "لست متفائلاً على الإطلاق بزيارة الرئيس جو بايدن المنطقة، وفي ذهنه، أو الأصح ذهن مستشاريه، ومن يحركون الخيوط خلف الكواليس أمور ليست في أولويات السعودية في هذه المرحلة بالذات، ولا من أولويات القيادة السعودية الجديدة. يأتي بايدن وفي ذهن فريقه تنازلات جذرية من قبل السعودية، لن تقبل بها السعودية الحالية. لعل من أبرزها احتكار الولايات المتحدة للتحالف مع السعودية ووقف التعامل أو التحالف مع أي قوة عظمى أخرى (الصين وروسيا)، وهذا أمر من الماضي، ولا مكان له من الإعراب حالياً في ظل قيادة لا تضع بيضها في سلة واحدة"!
طبعاً وجهة النظر هذه ليست يتيمة أو معزولة في الأوساط السعودية. إنها تناقش في المستويات المطلعة. وهي تعكس في مكان ما برودة سعودية، لكنها لا تقتصر على المملكة وحدها، حيال سياسات الإدارات الأميركية المتعاقبة المتقلبة منذ أكثر من عقد من الزمن. من هنا اعتقاد المراقبين أن زيارة الرئيس جو بايدن دونها عقبات وعقد يحتاج هذا الأخير إلى جهد كبير لتذليلها. فهل يحاول حقاً؟ وإذا حاول فهل ينجح؟
عقد وصعوبات وشيء من البرودة إزاء زيارة بايدن المنطقة
مواضيع ذات صلة