على العكس من كل أمنيات وتوقعات الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون عقب فوزه بولاية رئاسية ثانية فى إبريل (نيسان) الماضي جاءت نتيجة الجولة الثانية للانتخابات التشريعية التي أجريت يوم الأحد الماضي شديدة الإحباط، إذ سيكون من الصعب عليه تنفيذ أجندته الجديدة للحكم، سواء ما يتعلق منها بالإصلاحات السياسية الداخلية أو ما يتعلق بإدارة السياسة الخارجية الفرنسية أمام أنواء تداعيات الحرب الأوكرانية، وصياغة السياسة الدفاعية الأوروبية الجديدة ومستقبل العلاقات الأوروبية- الروسية والعلاقات الأوروبية - الأمريكية.
فقد مُني ماكرون بنكسة سياسية كبرى بفقدانه الأغلبية المطلقة التي يكون في مقدورها تمكينه في الحكم، حيث حصل تكتله الانتخابي «معاً» على 245 مقعداً فقط من إجمالي عدد مقاعد الجمعية الوطنية الذي يبلغ 577 مقعداً، وكان عليه أن يحصل كحد أدنى على 289 مقعداً حتى يتمكن من الحكم. ما يفاقم من خطورة الخريطة السياسية الجديدة داخل البرلمان الفرنسي بعد إعلان نتائج هذه الانتخابات وجود رأسين متناقضين للمعارضة واحدة يسارية والأخرى يمينية.
المعارضة اليسارية التي تتشكل من تكتل اليسار المسمى «الاتحاد الشعبي- الاجتماعي والبيئي الجديد» بزعامة المرشح الرئاسي السابق جان لوك ميلونشون والذي يتكون من حزب «فرنسا المتمردة» والأحزاب الاشتراكية والشيوعية والبيئية، وقد حصل على 150 مقعداً في البرلمان وفرض نفسه المعارض الأول، رغم أن هذه النتيجة لم تحقق ما كان يطمح إليه ميلونشون في الحصول على الأغلبية المطلقة ومن ثم فرض نفسه رئيساً للحكومة، لكنه مدرك لقيمة ما حققه من نتائج بالنسبة لمعادلة الحكم الجديدة على نحو ما تكشف من تعليقه على تلك النتائج بقوله إن تحالفه «أسقط ماكرون عن عرشه بأن حرمه من الحصول على الأغلبية المطلقة»، معتبراً أن «نتائج الانتخابات تمثل اقتصاصاً منه (ماكرون) ومن طريقة حكمه الفوقية».
أما الكتلة المعارضة القوية الثانية فهي كتلة «التجمع الوطني» اليميني المتطرف الذي تقوده مارين لوبان. فقد حصل هذا التجمع على 89 مقعداً، الأمر الذي جعل المراقبين يصفون هذه النتيجة بأنها «الفوز الأكبر» مقارنة بعدد مقاعده في الانتخابات التشريعية السابقة لعام 2017، والتي لم تزد على 7 مقاعد، ما جعل لوبان تعلق على هذه النتيجة بقولها إن كتلتها البرلمانية الجديدة «هي الأكثر عدداً بفارق كبير في تاريخ عائلتنا السياسية».
ولا شك أن هذه النتيجة ستمكن لوبان من العودة بقوة إلى الواجهة السياسية مجدداً بعد هزيمتها أمام ماكرون في انتخابات الإعادة الرئاسية وحصولها على نسبة 42% من الأصوات. لذلك لم يأت من فراغ تعليق جوردان بارديلا رئيس «التجمع الوطني» بالوكالة على هذه النتائج التي وصفها بأنها «تسونامي» وقال إن «موجة زرقاء في كل أنحاء البلاد». هذا يعني أن الرئيس ماكرون لم يخسر الأغلبية فقط داخل البرلمان الفرنسي؛ بل إنه يواجه أيضاً بمعارضة شرسة يقودها مرشحان سابقان للرئاسة تنافسا معه على موقعه في الإليزيه.
ولعل هذا ما جعل رئيسة الحكومة الفرنسية إليزابيث بورن تصف نتائج الانتخابات بأنها «خطر على البلاد». لكن التعليق الأكثر إثارة جاء على صفحات جريدة «الفاينانشيال تايمز» بأن «ماكرون يسقط على الأرض بعد أن فقد سيطرته على البرلمان».
كيف للرئيس ماكرون أن يتعايش مع هذه التعددية «الشرسة» داخل البرلمان، ومع من سيتحالف ليحصل على الأغلبية المطلقة المطلوبة كحد أدنى للحكم؟
الوزير غابريال أثال وصف نتائج الانتخابات بأنها «بعيدة عما كنا نأمله» وقال «ما يرتسم وضع غير مسبوق في الحياة السياسية والبرلمانية ما سيجبرنا على تجاوز ثوابتنا وانقساماتنا».
وقد كشف استطلاع للرأي أُجري الأسبوع الماضي أن أغلبية كاسحة من الفرنسيين (70%) لا تحبذ حصول ماكرون على الأغلبية المطلقة التي تمكنه من وضع برنامجه الانتخابي ووعوده موضع التنفيذ. اللافت أيضاً في هذا الاستطلاع أن الشعب الفرنسي لم يؤيد طموحات ميلونشون زعيم التحالف اليساري بالحصول على الأغلبية المطلقة التي تمكنه من الحكم.
المرجح أن الرئيس ماكرون سيرفض خيار المساكنة وأنه سيسعى للتحالف مع أطراف برلمانية أقرب إلى مشروعه السياسي وتكتله الوسطى الأقرب إلى اليمين، وربما يكون المرجح لمثل هذه الشراكة هو حزب «الجمهوريين» اليميني الحاصل على 61 مقعداً في مقدورها توفير نصاب الأغلبية المطلقة للحكومة التي ستكون مضطرة للحكم في إطار معادلة سياسية تعددية جديدة شديدة التعقيد.