تنعكس التطورات المتسارعة في المنطقة، على وقع الحرب الروسية – الأوكرانية، على الوضع اللبناني عموماً. الخطوة الخليجية التي تمثلت بعودة العلاقات الدبلوماسية مع لبنان من خلال السفراء، تتزامن مع تقدم المفاوضات حول التوصل إلى اتفاق نووي جديد مع إيران، على الرغم من الملاحظات الخليجية، وتحديداً السعودية حوله. لكن الأهم هو التقدم الذي يحدث على الساحة اليمنية، ويعكس احتمالات تقدم المحادثات مع الإيرانيين حول تسوية جديدة، سبقتها خطوات على مستوى السلطة في اليمن، تمثلت بإعلان الرئيس اليمني عبد ربه منصور هادي، إعفاء نائب رئيس الجمهورية علي محسن الأحمر من مهماته، وتشكيل مجلس قيادة رئاسي. وكان لافتاً استقبال السعودية المجلس الجديد واستعدادها لمساعدته والتشجيع على التفاوض لإيجاد حل للأزمة اليمنية.
تضاف إلى العودة الخليجية إعلان زيارة البابا فرنسيس لبنان في 12 حزيران (يونيو) المقبل، والاتفاق الأولي مع صندوق النقد الدولي. وإذا كان لا يزال من المبكر وضع التصورات النهائية لتسويات في المنطقة، ومنها لبنان الغارق في أزمة سياسية واقتصادية وهو ساحة مفتوحة ومشرعة للتدخلات، فيما تعتبره إيران ساحة لا يمكن التنازل عنها، إلا أن التطورات تشي بأن هناك ما يُطبخ على المستويين العربي والدولي، لإعادة ضبط الساحة اللبنانية، وأقله عدم تركها للفوضى وللسيطرة الإيرانية، خصوصاً مع قرب توقيع الاتفاق النووي.
الواضح أن الاهتمام العربي والدولي المتجدد بلبنان، يركز على الاستحقاقات المقبلة، فالعودة الخليجية مثلاً المنسقة مع الفرنسيين، خصوصاً من السعودية، وهو ما أصبح معلناً، لا تعني مواجهة مباشرة مع الإيرانيين، وإن كانت تعيد بعض التوازن من دون أن تغير في الواقع اللبناني والهيمنة المعقودة لـ"حزب الله"، إذ كان لافتاً أن عودة سفيري السعودية والكويت إلى بيروت تقررت بعد انتهاء مواعيد الترشيحات وتسجيل اللوائح، كما كان إعلان زيارة البابا للبنان، وهي عودة تشير إلى توجه جديد يحمل أبعاداً سياسية تنطلق من عدم ترك لبنان للفوضى ولهيمنة إقليمية تفرض ما تريد على مستوى ترتيب أوضاع المنطقة. فإذا كانت الأمور ستتقدم في اليمن، فلا بد من استعادة التوازن في الساحة اللبنانية، والمدخل لذلك إنجاز الانتخابات النيابية وتشكيل الحكومة المقبلة وإجراء انتخابات الرئاسة اللبنانية في موعدها، بالتوازي مع التزام لبنان بنود المبادرة الخليجية المتوافق عليها مع الفرنسيين، علماً أن بيان السعودية عن عودة سفيرها أشارت إلى التزام لبنان ببنود المبادرة مع تراجع الحملات والمواقف المسيئة لدول الخليج وإعلان الحكومة عن التزامها بأفضل العلاقات وانتماء لبنان العربي.
سبق إعلان عودة السفراء الخليجيين، تنسيق فرنسي – سعودي لمتابعة الملف اللبناني، إذ يُحكى عن اتفاق على إطلاق صندوق مشترك لتوزيع المساعدات الإنسانية، في وقت تعمل السعودية على وضع الدول العربية في صورة حركتها في لبنان، ويبدأ السفير السعودي وليد البخاري بتنظيم سلسلة من اللقاءات والإفطارات، وهذه حركة مرتبطة بمرحلة ما بعد الانتخابات النيابية لتحديد الوجهة المقبلة والتعامل مع استحقاقاتها اللبنانية والاحتمالات المرتبطة بالتسوية، وكذلك ما يمكن أن ينتج من الاتفاق النووي إذا تم التوقيع عليه.
لكن اتضاح الصورة في المنطقة، ومنها لبنان، يحتاج إلى وقت. فالكلام الذي يُسّرب حول وجهة إيرانية جديدة مرتبطة بالاتفاق النووي، وتقوم على سعي لاستيعاب المرحلة والتفاهم مع الولايات المتحدة حول ملفات المنطقة، يحتاج إلى ترجمة على أرض الواقع. فالتسوية في اليمن لم تتضح ملامحها بعد، وإن كانت هناك تهدئة إيرانية في مقابل الدعوة السعودية للحوار، فيما التفاهمات في العراق لم تصل إلى نتيجة للخروج من مأزق انتخاب الرئيس والحكومة، أما الوضع في لبنان، فيبقى ضبابياً إلى أن تنجلي الصورة حول الاتفاق على تسوية مرحلية وليس حلاً نهائياً ما دامت الاتفاقات الدولية لم تنضج بعد.
حتى الآن لم تفصح إيران بوضوح عن إمكان موافقتها على شراكة مع المجتمع الدولي، ومنها دول الخليج، لإنتاج تسوية متوازنة في لبنان، وكذلك في المنطقة، وإن كانت تبعث برسائل إيجابية مرتبطة بقرب توقيع الاتفاق النووي. فإيران تعتبر أنها حققت مكتسبات في التفاوض بالحفاظ على صواريخها البالستية، وأيضاً برفع العقوبات، وبالتالي عندما تتفاوض على ساحة مثل لبنان تشكل مرتكزاً لسياساتها بوجود قوة "حزب الله"، لا تبدو أنها مستعدة لتقديم تنازلات بلا ثمن كبير، وإن كانت تحتاج لرفع الحصار عن استثماراتها في الاقتصاد والخروج من حالة الاختناق التي تعانيها، لذا الوصول إلى تفاهم مع المجتمع الدولي حول لبنان يحتاج إلى وقت، مع تهدئة، إلا إذا تفجر الاتفاق وعادت الأمور إلى نقطة الصفر.
وتعرف إيران أن لبنان لا يستطيع أن يستعيد بعض عافيته من دون دول الخليج، وهو الذي وقع قبل أيام على اتفاق مع صندوق النقد الدولي، فإذا تقدمت الأمور نحو التسوية، فستكون مفتوحة على شروط متبادلة، قبل إنتاجها.
الواقع يشير إلى أن إيران لا تستطيع انتشال لبنان من أزمته، وان كانت تمتلك القوة العسكرية التي يمثلها "حزب الله". وهذا الأخير لم يستطع ترويج شعار التوجه شرقاً ولا وضع خطة فعلية للنهوض، وهو اضطر إلى تسيير التفاوض مع صندوق النقد الدولي وانتظار المساعدات الدولية.
تكمن هنا عناصر قوة العودة الخليجية والدولية إلى لبنان، وهذا ينسحب سياسياً على الاستحقاقات المقبلة بغض النظر عن نتائج الانتخابات النيابية. فإذا حصل "حزب الله" على الأكثرية بتحالف الممانعة مع التيار العوني، لن يتمكن من السير في عملية الإنقاذ من دون سياسة تتلاءم مع المجتمع الدولي. سيضطر إلى التنازل وسيقتنع بعدم قدرته على تغيير الصيغة اللبنانية، وإن كان يطمح إلى الهيمنة وتغيير وجه لبنان.
الاهتمام العربي والدولي المتجدد بلبنان يفتح على احتمالات عدة. السؤال: هل ينطلق بهدف إنقاذ لبنان وحمايته وتكريس وحدته؟ الصورة ستتضح بعد إنجاز الانتخابات النيابية وفي البحث المعمق حول المرحلة المقبلة في لبنان، واستحقاق انتخاب رئيس الجمهورية. حتى الآن لا بحث في تسوية سياسية ورئاسية، يُنتخب بموجبها رئيس جديد للجمهورية لا يكون محسوباً على طرف محدد، أي العودة إلى تقاليد انتخاب الرئيس السابقة وليس فرضه كما حدث في 2016 ونتائجها التي أدخلت لبنان في دوامة من الصراعات والانهيارات وعزله عن انتمائه العربي.
مرحلة ما بعد الانتخابات مرتبطة أيضاً بالوقائع الإقليمية والدولية. وإلى حين نضوج التسويات يبقى لبنان بالنسبة إلى الإيرانيين، الساحة الرئيسية، وهذا يرتبط بالنقاش حول مستقبله بين الأطراف الإقليميين. ولا تزال تقول إيران، للسعودية ولدول الخليج، إن العودة إلى لبنان تمر بالاعتراف بالأمر الواقع وبدور الحزب المقرر في الشأن اللبناني. لكن التطورات بدأت تظهر أن أي مفاوضات أو تفاهمات، سيكون لبنان نقطة رئيسية فيها، إلا إذا حدث ما ليس في الحسبان وتحول البلد مجدداً ساحة تصعيد وتفجير تقضي على ما تبقى منه.