خاض الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب معارك سياسية عديدة مع حلفائه الأطلسيين في أوروبا لرفع موازنات الانفاق الدفاعي، حيث كان دائم النقد لهم، مردداً "كل ما نطالبكم به هو دفع حصتكم العادلة في الناتو... ألمانيا تدفع 1.24% في حين أن الولايات المتحدة تدفع نسبة أكبر وهى 4.3% من الناتج المحلى الإجمالي - لحماية أوروبا ....هل هذه عدالة". ومن المعروف أن اتفاقاً تم التوصل اليه في 2014 قد نص على أن تخصص الدول الاعضاء في الحلف 2 % من إجمالي ناتجها الداخلي لنفقات الدفاع في الحلف بحلول العام 2024، الا ان 15 دولة داخل الحلف ما تزال بعيدة عن تحقيق هذا الهدف، وبينها المانيا وكندا وإيطاليا وإسبانيا وبلجيكا. وقال بعضها إنه غير قادر على تحقيق هذا الهدف في 2024، ما كان يُغضب ترامب، الذي كان يطالب برفع المساهمة الأوروبية مستقبلاً إلى 4%، وكتب ترامب ذات مرة على "تويتر" قائلاً: "ألمانيا باشرت للتو دفع مليارات الدولارات لروسيا، البلد الذي تريد أن تحمي نفسها منه، لسد حاجاتها من الطاقة عبر خط أنابيب غاز جديد قادم من روسيا. هذا غير مقبول" وقد صرح قبلها قائلا "المانيا تحت سيطرة روسيا بالكامل ...إنها رهينة روسيا".
ربما يتذكر الكثيرون هذه السجالات الأطلسية اللافتة بعد أن تسببت العمليات العسكرية الروسية ضد أوكرانيا في اندفاع دول أوروبية عدة لتعزيز انفاقها العسكري، لاسيما بعد الإعلان الروسي عن وضع قوات الردع النووية في حالة تأهب، وهو ما وصفه وزير الدفاع البريطاني بن والاس بمعركة "بلاغة خطابية"، مذكّراً موسكو بأن بريطانيا أيضاً قوة نووية وأن الرئيس بوتين يعرف أن "أي استخدام لسلاح نووي، سيكون له رد مساو أو أكبر من الغرب".
رداً على العمليات العسكرية الروسية، انضمت ألمانيا إلى دول أوروبية أعلنت عزمها إرسال أسلحة لمساعدة أوكرانيا، التي تصنف رسمياً بأنها "دولة شريكة" لحلف الناتو، ما يعني أن تفاهماً بينها وبين الحلف مفاده أنها ستنضم إليه في وقت ما مستقبلاً، وهو مااعتبرته روسيا "خطاً أحمر"، وقال الاتحاد الأوروبي أنه سينفق ما يصل إلى 450 مليون يورو لتمويل توريد أسلحة لأوكرانيا، في سابقة تاريخية هي الأولى التي يساعد فيها الإتحاد في توفير أسلحة لمنطقة صراع عسكري.
ولعل أكبر تغير في أوروبا جراء أزمة أوكرانيا يمكن رصده في ألمانيا، حيث تستشعر برلين الإحساس بالمرارة جراء فشل رهانها على إمكانية نجاح الحوار مع الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، حيث راهنت على ذلك للساعات الأخيرة قبل الحرب، حتى أن المستشار الألماني الجديد أولاف شولتز لم يكن يعتقد أن سيناريو الحرب يمكن أن يتحول إلى حقيقة، وهو مايفسر ما وصفته بعض التقارير الإعلامية بـ"صدمة" ألمانيا مع اجتياح القوات الروسية للحدود الأوكرانية، وما أعقب ذلك من تحولات كبرى في الإستراتيجية الألمانية التي طوت صفحة عقود طويلة منذ نهاية الحرب العالمية الثانية اعتمدت خلالها برلين على الحوار والعلاقات التجارية كسبيل لتحقيق السلام، وتقرر التخلي عن سياسة عدم تصدير الأسلحة إلى مناطق الصراعات، وإرسال أسلحة إلى أوكرانيا ومن باب المفارقة أن حكومة المستشار شولتز المؤلفة من الديمقراطيين الاشتراكيين والخضر والديمقراطيين الأحرار قد تعهدت عند وصولها للسلطة نهاية العام الماضي بسياسة خارجية أكثر صرامة على صادرات الأسلحة. قررت ألمانيا أيضاً تخصيص 100 مليار يورو لتحديث الجيش، بالاضافة إلى تعهد الائتلاف الحكومي بتخصيص أكثر من 2% من الناتج المحلي الاجمالي للانفاق العسكري سنوياً لتنهي برلين بذلك رفضاً طويلاً للضغوط الأمريكية لزيادة الانفاق العسكري. والأهم من ذلك كله هو تبلور رؤية ألمانية وردت على لسان المستشار شولتز الذي قال ""ألمانيا تحتاج إلى قدرات عسكرية جديدة، فبوتين يريد إمبراطورية روسية، وهو يريد أن يفرض سيطرته على أوروبا بحسب رؤيته للعالم. وعلينا أن نحمي حريتنا وديمقراطيتنا، وهذا سيحتاج إلى عمل قوي على الصعيد الوطني".
التوجه الألماني الجديد ينطوي على تكاليف باهظة سواء لجهة إستهلاك المزيد من الفحم بسبب نقص الغاز الوارد من روسيا، أو لإحتمالية ارجاء اغلاق المحطات النووية الثلاث الأخيرة المقرر إغلاقها نهاية العام الجاري. اتجهت ألمانيا ايضاً إلى تغيير سياسة الطاقة وعدم الإعتماد على مورد واحد، وأعلن شولتز أن الحكومة الألمانية ستعمل سريعاً على بناء محطات لتخزين الغاز الطبيعي المسال في مناطق بشمالي ألمانيا. وأن حكومته ستفرض حزمة واسعة من الإجراءات لمساعدة الناس على التعامل مع أسعار الطاقة المرتفعة، وبخاصة الفئات الأقل دخلاً، مايعكس تغيراً في البنية التحتية للطاقة في ألمانيا، والتي كانت حتى وقت قريب تعتمد على إمدادات الغاز والنفط الروسية بنسبة 65 %، كما لا تمتلك محطات لإستيراد الغاز المسال.
الإستنفار الأمني الأوروبي لا يقتصر على ألمانيا، بل يشمل فرنسا التي أعلنت تعبئة أكثر من 9500 جندي فرنسي بشكل مباشر أو وضعهم في حالة تأهب في إطار التحركات التي تأتي ردًا على الغزو الروسي لأوكرانيا، مؤكدة أن أكثر من 1500 جندي فرنسي يشاركون بشكل مباشر في مهمات لتعزيز وضعية حلف شمال الأطلسي على الخاصرة الشرقية، كما يوجد نحو 8000 جندي فرنسي في حالة تأهب في إطار قوة الرد السريع التابعة لحلف شمال الأطلسي، والتي تتولى فرنسا قيادتها في عام 2022. والأمر لم يتوقف عند هذا الحد بل نجد أن دولاً مثل السويد وفنلندا قد تخلت عن الصمت وبادرتا بتأكيد حقهما في الإنضمام إلى حلف الأطلسي، وذلك رداً على تحذيرات روسية من انضمام البلدين للناتو، وهي مسألة غير مطروحة من الأساس على أجندة هلسنكي وستوكهولم، ولكن يبدو أن التحذيرات الروسية قد لامست الكبرياء الوطني للدولتين.
بريطانيا أيضاً تبنت موقفاً سياسياً حاداً بشكل واضح ضد روسيا، وذهبت إلى حد دعم سفر الراغبين في القتال إلى جانب الجيش الأوكراني، بما في ذلك البريطانيين، وقالت وزيرة الخارجية البريطانية، ليز تراس، إنها تدعم ذهاب مواطنين بريطانيين بشكل فردي لمقاتلة القوات الروسية في أوكرانيا.
خلاصة ماسبق أن الأزمة الأوكرانية قد تحولت إلى رافعة استراتيجية مهمة لتعزيز وحدة أوروبا، التي عانت خلال السنوات الأخيرة من الانقسام حول ملفات وقضايا عدة، لاسيما أن أوروبا تستشعر غضبا مزدوجاً سواء من تعتبره تهديد روسي أو سلوك الحليف الأمريكي الذي تجاهل الحليف الأوروبي خلال جولات التفاوض مع روسيا بشأن أوكرانيا منذ بدايات الأزمة، حتى أن مفاوضات جنيف منتصف يناير الماضي عقدت دون تخصيص مقعد للتكتل الأوروبي، ما دفع ألمانيا للمطالبة رسمياً بإشراك أوروبا في المفاوضات.
جزء حيوي من إستنفار أوروبا هو شعورها بالتهميش رغم حساسية الأزمة بالنسبة لأمنها، مادفع إلى الواجهة هدف الرئاسة الفرنسية للاتحاد الأوروبي جعل "أوروبا قوية في العالم وذات سيادة كاملة وحرة في خياراتها وسيدة لمصيرها"، ويبقى التساؤل عما إذا كانت الأزمة الأوكرانية ستعزز طموحات فرنسا لبناء سياسات دفاع أوروبية مشتركة، والتخلي عن القوة الناعمة كأداة وحيدة للسياسة الخارجية والتحول لامتلاك قوة خشنة قادرة على مواجهة التحديات كافة، والتُعجّيل بتجاوز الانقسامات الأوروبية، أم أن الأمر سيقتصر على إستجابات قُطرية فردية للظروف الجديدة بما يُبقي على الإنقسامات ويحول دون وجود دور أوروبي فاعل في بناء نظام عالمي جديد.