عرفت السعودية بالوجدان. ربما هي الفطرة، أو فطنة الحس الاجتماعي، فاستشعرتها بخفر قبل أن أعرفها. لكنني غالباً ما انتميت إليها، قبل زيارتها، وهي قبلة أهل مشارق الأرض ومغاربها. استشعرت الاندماج قبل ثورتها، وقبل الدخول في رؤية التطوير والتنوير. لكن شيئاً ما يشدّك إليها، ربما هو عبق التاريخ، أو عراقة الأصل والوجود، وليس الإنتماء بمعناه الديني أو الطائفي أو المذهبي، إنما انتماء الباحث عن حضن أو مرتع وهج يستند إليه سعياً وراء أمن وأمان. زرت السعودية مؤخراً، بثورتها التي تضج حياة، وتضيء أملاً بمستقبل يحلم فيه إبن العرب. زرت السعودية آتياً من بيروت، والتي كانت توصف يوماً بلؤلؤة الشرق، لكن الشرق أغرب عن بيروت، وعن مشرق العرب، وكأنه قد استوطن في خليجهم.
وصلت السعودية بوجل، إلى دولة هي قبلة العرب، لكنها بيت فيه كل مقومات الأمن. ترتسم في معالمها خيالات الأفق. تسير فيها بإيقاع سريع، ينقّلك ما بين سلف وخلف، بسرعة قفز الإندماج في التاريخ وفي المستقبل، ربما هو سحر، من ذكاء اصطناعي يتجه اليه العالم، فكانت الرياض موطئه، ومنبعه. وجدت عكس ما كان، او عكس ما أُفهمنا، فهناك رياض الشعر والنثر والموسيقى، ورياض ثقافة وسياسة، وخريطة ترتسم عليها معالم العالم، وتنضج في حناياها تطلعات الحالم. في الزيارة، تخالها قطاراً على طريق سريع، بين الأزل والأبد، بين الاول والتلد. لكأنها قطار الرحى إلى مغالبة الزمن. تستظل الطريق من العليا الى "الخزّان"، حيث هناك اختزان تاريخ، اختمار شعر، وطيب اللقاء.
في الخزّان بيتان. أحدهما لجهة اليسار يتجاوز الثمانين، برقّه ورقيه، وكان له المساعد. وآخر لجهة اليسار، حيث خيمة الفؤاد، ودفء الوداد، سقف حضر وصحراء، عصرنة جليس تراءى. والجليس أمير، تتهادى على كتفيه جبال ووهاد، تتعصرن في حنانيه الكلمات، على أصابعه تدور مدن، وفوق الأنامل يزهو أقحوان. عند الوصول يتناهى الى السمع مزيج، من شام وخليج. لكأن الرجل تتراقص بين يديه موشحات. بلحنها تتفتح وشائج، فيزهو اللقاء. يترامى الى المسامع نقرة عود، نوتا اللحن، وشغف الكمان. هو بهو رحب، وبحر يمتد من مكان إلى مكان، في خيمة لا يضاهيها استمار، يمضي الوقت ولا يمضي، بين أضلع مكتبة، فيها نزار وصويان. وفيها ما ملكت أيمانه من بقاء وارتحال.
في صدر المكان رجل، يصاحب الزمان، يسابقه، لكأنه بودلير أو فولتير، المتنبي أو نزار، وفيهم درويش يخاطب أندلساً وشام. الرجل أمير، له إسم وأسماء، هو عبد ورحمن، وهو الصادق في شعره من بقاء لارتحال. وهو النازف، من جرح ضرير زاهد الذي كانه والده، فأحفظه قرآناً وشعراً. في الخيمة، لحن صادق الشاعر، وصوت محمد عبده، يذهلان الحاضرين، فكانت مذهلة بما فيها من طباق وتعاكس الأضداد، وما بينهما شعر نزار وصوت كاظم. يجلس الأمير في مربعه، تتراقص من حوله أنغام، تشدوه أصالة، يغنّيه نبيل، ولا يكون آخر لقاء، فتتجدد الأنغام، ينطلق السهم في ثلاثة حروف تمتلك جواب الأسئلة، فالعيون آخر الآمال في العباد والجوهر.
كنت قد عرفته قبل أن أعرف المملكة، فهو صاحب الأثر، شبيه الريح، أو كليمه، أثره أبعد من ملايين، فيه بدايات الأمل، "يملاك بالأسئلة"، أسئلة الشك واليقين. فهو رضيع نجد، فتى باريس، وازدهار بيروت. لكأن العواصم تروب بين يديه زبدا، وهو الفدائي الذي خلق من جزمة أفقا. هو الأمراء في أمير، أو الشعراء في شاعر، فيكون أمير الشعراء، أو أمير الأمراء. رفيق بيروت، التي خارت في محجري والده، وزالت في اغترابه، وعَطِرُ باريس، ذات الرياحين والأقحوان.
في المعلقات، صاغ تاريخ السعودية شعراً، لمحاكاة 300 عام على ولادة الدولة الأولى مروراً بالثانية وصولاً الى الثالثة ومعركة التوحيد، في منسوج يحاكي ما بين الحضارة والتشبث بالحياة، مع إبراز تاريخ كان خبياً، لانتصارات وتلاحم الشعب والأمراء والملوك. مبتدعاً فكرة المسرحية الشعرية الغنائية، في تأسيس ثقافي لما كان من أمجاد، غاية الأمير تأبيده وحفظه وتوارثه في إشارة الى الفضائل، والمواءمة بين التسامي الشعري والثقافي، والإرتقاء الذي سلكته السعودية وفق رؤية 2030، وهي السعودية الطامحة لأن تكون إحدى الدول المؤثرة في صياغة العالم سياسة، وثقافة، واقتصاداً واجتماعاً، في ما استلهمه ولي العهد الأمير محمد بن سلمان. وعظمة العمل الثقافي في هذا المجال، أنها العماد التأسيسي والحصن لأي عمل سياسي او اقتصادي، لا سيما أن كل الدول العظمى يقاس تقدمها بعمق ثقافتها وما تختزنه من مذاهب فكرية وفنية، شعراً أو مسرحاً أو كتابة، وهنا اجتمعت الأقانيم الثلاثة. ليكون الشاعر الذي صدق وعده في حماية عبقرية العربية.
عرفت السعودية في عيني عبد الرحمن بن مساعد، فما أضاء عليه الأمير، هو أن السعودية ليست فقط مهبط الوحي الديني، بل مهبط للوحي الثقافي والثراء اللغوي والأدبي، وهذا بحدّ ذاته ابحار في تاريخ كان مخفياً أو منسياً، ساهم في استيلاده، على طريق حلم صاغه ولّي للعهد الى ساعة الأبد، في سبيل صناعة الوطن الأعز فهو لكل سجية في الخير رمز، وهو الفريد في اللطف في عسر ويسر، عصيّ الوصف سلمان الشهامة. وهو المتنبئ في عزم وحزم فعلى قدره هذت عمائم، ويحكي التاريخ عنه الملاحم.
في شعره فضيلة، تستعيد أمجاد العرب، بشهامتهم وفروسيتهم، فيرى موطناً عظيم الحزم شيمته الصبر، هو العون للمحتاج وعطف وبرّ. له انتهاء المجد هو المجد عنده ابتدا وكل انجاز يصنع حسّدا. لم نعرفك قبلاً سوى بقول لا عمل، حتى عهدناك القول والعمل، فأنت ملاذ لمن ضاقت به السبل، والجود فيك أصيل ليس يفتعل.
عبد الرحمن بن مساعد.. أمارات في أمير الشعر والسياسة والثقافة والحصافة
مواضيع ذات صلة