: آخر تحديث

العيال كبرت

12
14
13

لم يَحِن لي بعد أن أكتب عن غزة، ولست أتعجل الكتابة عن غزة، ليس لبلادة، ولا لتغافل، ولا لتهاون بحقها، بل لأن واجب الوقت ليس تطارح الأفكار، ولا التناظر بالآراء، لكنه وقت رجلين: إما صانع تاريخ، أو مُوَثِّق لهذا التاريخ، أَمَا وإنى لست بأحدهما، فلندعهما حتى يفرغا، ثم فلنطالع عملهما، ثم ليقل بعدها من شاء ما شاء.

وحيث أن الزمان زمان صنع تاريخ، فقد فَطِن أهل اليمن إلى ذلك فأَبَوْا (على الجَهْد والبُعد) إلا أن يمدوا طوفان الأقصى بأمداد من النصرة والتأييد يبعثونها تباعًا مستهدفين بها "قاتل غزة"، ليس يثنيهم عن ذلك مناوأة العدو، ولا مناشدة الصديق، ولا قلة الناصر، وإني لست أعجب لتلك النجدة والحَمِيَّة من أهل اليمن، فلقد كنت عليها من الشاهدين يومًا ما.

فإني قد شهدت باليمن حرب الخليج الثانية أوائل تسعينيات القرن العشرين، إذ كنت صحبة سيدي ووالدي الفاضل المعلم/ زين العابدين بإحدى قرى تعز حيث عمل هنالك معلمًا ذلك العام، وكنت إذ ذاك صبيًّا مميزًا أعقل الأمور، وأُثْبِت الوقائع، وكانت اليمن حينئذ دولة وشعبًا قد أنكرت الحرب على العراق، وأظهرت انحيازًا وموالاةً لصدام بالقلب واللسان دون السلاح، ولا يغُرَّنَّك من اليمنيين بُعد بلادهم، ولا عزلة أرضهم، ولا انقطاع قُراهم، فإن عامَّتهم وعَوَامَّهم لهم إلمام بأحاديث الساسة والسياسة، ولهم في شأنها رأي ونظر، وجدل وخصومة، ولهم على المِراء فيها قوة وحجة، ولهم على الإفاضة في شعوبها إقدام وسَعَة، وسيأتيك فيما أقصه عليك الدليل والبيان، فإنه لما قامت الحرب كان القوم صغارهم وكبارهم يضِجُّون بالحديث عنها انتصارًا لصدام، ومناوأةً لأعداء صدام، وارتقابًا لكيماوي صدام، وكانوا لا يزالون يخوضون في ذلك حيثما اجتمعوا، حتى لقد أقبل صبي منهم ذات حين على سيدتي الوالدة يستنبئها، وإن شئت فهو يقررها: "من تشجعين صدام أم ...؟".

لكن القوم عرب، وغيرتهم حاضرة، والحرب حامية الوطيس، وهي منهم بعيد، فليسوا يستطيعون نُصرة لحليفهم، ولا مضارة لعدوهم، وهم مع ذلك ليسوا يقنعون من النُّصرة بالكلام، وحَمِيَّتهم ليست ترضى لهم من الحرب بمقاعد النَّظَّارة، فنظروا ففطنوا أن وسط بيوتهم "مركز قيادة عاصفة الصحراء" وهم عنه غافلون، ذلك أن مصر انحازت وقتئذ إلى الحلف الأمريكي الخليجي المحارب لجيش صدام، فلم يكن للقوم بُدٌّ ونحن بين أظهرهم إلا أن يتخذوا بيت معلمهم المصري هدفًا ورَمِيَّة! فكان الصبية والمراهقون (إما من تلقاء أنفسهم أو بوسوسة من آخرين) يطوفون بالقرية يتظاهرون ويهتفون بمسمع منا: "لا إله إلا الله، حسني مبارك شله الله"، "26 سبتمبر، ضربوا ... بالشمبل"، "بالروح، بالدم، نفديك يا صدام"، وربما حميت قلوبهم أكثر فلم يُرضِهم التطواف ولا الهتاف ولا الشتام حتى يرجموا باب دار معلمهم المصري بالحجارة، والباب من حديد صلب، والحجر من جلمود صلد، فإذا ضربت هذا بذاك في سكون الليل سمعت بالدار قصف القنابل أو دَوِيَّ المدافع! فإذا انفتح الباب وخرج إليهم رب الدار انفض جمعهم، أو فترت سَوْرَة غضبهم، ولعلهم كانوا يجدون فيما يأتون إلينا من إساءة الأدب، وإساءة الجوار عوضًا عن نصر لم يستطيعوه لحليفهم، فهكذا كان حال أهل قريتنا في نُصرة صدام وجيشه.

 

إقرأ أيضاً: !هتMove onأسرع¡‎

أما إذا ما جاءهم خبرُ نصر لصدام، أو بعضُ نصر، أو غيرُ نصر لكنهم يتأولونه نصرًا، فتلك ليلة النار، فقد كان احتفالهم أن يشعلوا الجبال نارًا بالليل! ولقد كانت ليلة النار تلك ليلة ليلاء، فإنك إذا جَنَّ عليك الليل ونظرت من نافذة الدار (أو من الروشن على قول أهل يمننا) لم تبصر من حولك إلا ظلمة الجبال تتغشاها ظلمة الليل، يتخلل هذا وتلك بعض نثار النور لنجوم فى السماء، أو لمصابيح قليلة فوق الجبال، فلما كانت ليلة النار تلك ذهبت إلى (الروشن) أنظر فإذا أكثر الجبال حولنا تشتعل بالنار الموقدة، ولما كانت الظلمة هي عادة تلك الجبال كما أسلفت، فقد دهشت وفزعت لهذا الذى أراه ولا أدرى أهو بركان يتفجر؟! أم هو نبأ عظيم نحن عنه غافلون؟! فوَلَّيْت مُرَوَّعًا إلى والدي أخبره الخبر، فخرج يستجلي الأمر فعلم أنهم فعلوا ذلك ابتهاجًا بخبر عَدُّوه نصرًا لصدام، وربما (إن كنت أحسنت التذكر) سمعت مع هذه النار دوي طبل يجوب الوادي أو ينحدر من الجبل، فبتنا ليلة حربية على شرف صدام!

ولقد تحمل اليمن، وأهله، ومن نزل بين أظهرهم تبعات تلك الموالاة القلبية اللسانية لصدام في حربه، لغضبة أهل الخليج، فمنعوا عنهم رفدهم ومعونتهم، وصرفوا العمال اليمنيين من أعمالهم، وكان المُعارون من المعلمين المصريين تأتيهم أجورهم معونة إلى الجمهورية اليمنية، فلما قُطعت تلك المعونات عن الحكومة اليمنية لسابقتها من الحرب كنا مع من رجع، فكنا نحن المصريين هناك مضارين على كلا الحالين، ومن كلا الفريقين!

إقرأ أيضاً: الشعاثة والشُّعثاء‎

فإذا كان هذا الذي قصصته عليك هو حَمِيَّة (عيال) صبية ومراهقين عُزل محصورين بين صبر وحبشي من جبال تعز فى زمن كان يعز فيه التواصل والاتصال، فلا عجب أن ترى لهم اليوم مثل هذه الفزعة لغزة بعد أن (العيال كبرت) وصارت لهم دولة وسلاح!

إنَّ الذي يتدبر الفزعة اليمانية لعراق صدام 1991، سيتبين له سبب هذه الفزعة (اليمانية) الشديدة لغزة 2024، ذلك أن هوى الفاعل في الزمنين واحد وإن اختلف المذهب، والقبيلة، والمحافظة، والفعل في كنهه واحد وإن اختلفت صورته وشدته وأثره، وموروثات ضمائرهم على اختلافهم واحدة وهي تلزمهم النصرة لإخوة الإسلام والعروبة.

كان هذا بعض ما حضرني من ذكر اليمن وأهله في القديم والجديد.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في كتَّاب إيلاف