يشغلك نيكوس كازنتزاكيس منذ الصَّفحة الأولى في "زوربا" بحوار يجعلك تنصرف عن الحكاية؛ كانت الحكاية فضاءً رحباً لجدل امتدَّ منذ رأى الرَّئيس الغارق في أفكار بوذا كطير تشكَّلَ داخل بيضته ثم نقر كلسها ليبصر الضُّوء كائناً آخر بجناحين طليقين شكَّل ذاته دون بيضة ودون قشرة كلس، زوربا الذي ولد نورساً بجناحين طليقين له على كلِّ بحر صخرة.
يهرب الرَّئيس من كتبه ومن قراءاته التي أحالته إلى "الفأر قارض الكتب" إلى جزيرة كريت في تجربة مختلفة أملاً بتغيير نمط حياته بالانغماس مع البسطاء لحكِّ ما آمن به من أفكار بواقع سينسفها تالياً.
في المقهى بانتظار السَّفينة يلتقي الرَّئيس فيلسوفاً من نوع آخر، زوربا "القلب الحيُّ، الفم الكبير النَّهم، الرُّوح العظيمة الوحشيَّة، غير المفصولة عن أمِّنا الأرض"، حيث ترتطم مثاليّات الرَّئيس ووجدانيّاته بفطرة زوربا الذي يقتنص الحياة كما تُقتنص الطُّيور، زوربا الذي يحتضن "السُّنتوري" ويعزف حتّى يسكر النَّغم ثم يرقص في الهواء محرِّراً جسده من كل القيود، لم يكن زوربا يضيِّع وقته في طرح الأسئلة، كان يحيا سعيداً مع ما تهبه الحياة من متع، لم يكن يشغله إن كان من يرسل إليه أسباب بقائه حيّاً إلهاً أم شيطاناً، كان زوربا يساوي بينهما.
كلَّما غاص زوربا في نفق الفحم... في بطن الجبل أكثر، ذهب الرَّئيس عميقاً في أنفاق ذهنه الشَّاسعة، في جدل أرهقه كثيراً قبل أن ينطق بما كان عاجزاً عن النُّطق به: "بائس مَن لا يستطيع تحرير نفسه من بوذا والآلهة والأوطان والأفكار".
لم تخلُ حياة زوربا من التَّجارب التي أقحمته الحياة في أتُونِها كي يشكِّل قناعاته، وهو غير عامد ودون نيَّة سابقة لاستخلاص العبر كان يرسِّخ نمط الحياة الذي يجب أن يكون.
شفي زوربا من البلاد، شفي من الوطن، اكتشف أنه حين كان يقاتل ويَقتل من أجل الوطن إنَّما كان يحارب ذاته، آمن أن كل البشر أخوة لا يختلفون إلّا بالعمل، فخرج من الإطار ولم يشأ أن يحيا في صناديق العادة والعقيدة والمثل والأفكار الوضعيَّة، بل ثار على السَّائد وخلع عنه أسمال الموروث البالي كي لا يختنق بعفنها.
وهو حين كان يحيا هكذا ويصدم رئيسه بخلاصاته وأفكاره إنَّما كان ينتشله من بئر عميق مظلم إلى شاطئ متَّسع لكل ملذَّات الحياة.
إقرأ أيضاً: فيصل القاسم... ما لَهُ وما عَلَيَّ
لكنْ... هل كان زوربا حامل أفكار آمَنَ بها كازنتزاكيس وكان يرغب في طرحها على مسرح الرواية؟ أم أنَّ كازنتزاكي تورَّط في تطوُّر شخصيَّة زوربا إلى هذا الحدِّ في تجربة سرديَّة بحتة؟ أم أن كازنتزاكي كان الرَّئيس الذي اصطدم بكائن غرائبيٍّ يوماً فحوَّل مجرى حياته نحو نمط زورباويٍّ؟
أيّاً تكن الإجابة، وأيّاً تكن الحقيقة، فإنَّ الثَّابت في هذا النص هو العفويَّة والبساطة وعشق الحياة، والمتحوِّل هو الأفكار والمعتقدات وكلُّ ما أُمْلي على العقل البشريِّ من آيديولوجيا حجبت عنه النُّور ومنعت عنه الهواء حدَّ قتله وتنحيته لصالح مرتكبيها.
مات زوربا... لم يمت زوربا، وقف كسنديانة هرمة مطلّاً على الحياة من نافذة ملذَّاتها وأهوائه، ممسكاً بدرفتيها باحثاً عن مغامرة أخرى... وربَّما مات زوربا وهو يعانق الحياة.