لا تكاد جلسة أو سهرة أو لقاء يخلو من حديث عن الفساد والإفساد، فأينما وليت وجهك في وسائل النقل أو المقاهي والمناسبات، ناهيك عن الصحف والمجلات ووسائل الإعلام المختلفة التي امتلأت بالدراسات والبحوث عن ظاهرة ظنّ البعض إنها ولدت للتو، بل ونسي الكثير بأننا في بلاد يزدحم فيها القيل والقال وكثرة السؤال، وتعج فيها أشكال وألوان من الفساد المتراكم ليس اليوم بل عبر حقب التاريخ وغيومه المدلهمة ككتل الليل المظلمة، كما لم يهطل هذا المطر الملوث بالسحت الحرام هذا الشتاء فقط، والفضيلة أيضاً لم تولد اليوم لكي تعادي الرذيلة بشكلها المزركش والمعاصر. إنه صراع محتدم بين الأخلاق العليا والأخلاق الدنيا، بين عزة النفس ودناءتها، وأكوام من التربية الفاسدة وحقب من الحكم الأعرج، وأكداس من الموروثات التي تبيح المال العام وتستسهل الاغتناء دون القيم والنبل.
منذ البدء كان الفساد إنسانياً يبدأ في البيت والمدرسة وينتهي في دوائر الحكومة، من القاعدة حتى الهرم، ولا ينتهي في دهاليز السجون وغرف الإعدام، لأنه في الأساس إنتاج تربية منحرفة مذمومة رغم كل ما يحيط بها من زركشة وتجميل وإغراء في السلطة والمال والنساء، فهي أساس النخر في أبدان الدول والكيانات كما هي علة النفس والروح حينما يسقط الإنسان عن مجموعة ما فطر الله به خلقه من عزة في النفس وطهارة في القلب واليد. ويبقى السؤال المُر كيف لموظف مسؤول أو وزير أو حاكم يتقاضى معاشاً لا يتوافق إطلاقاً مع حجم قصره أو عمارته أو عدد سياراته ونفقاته وغناه الفاحش خلال سنوات قليلة جداً ولا يُسأل عنها أو يُحاسَب؟ ولماذا معظم الوزارات ممالك وإمارات إمَّا للأشخاص وعوائلهم وعشائرهم وإمَّا للأحزاب دونما الوطن والشعب، حيث يتصرف المسؤول وزيراً كان أو نزولاً لأصغر مدير، كأمير أو مالك لتلك الوزارة أو الدائرة متنمراً ومشعراً المواطن بأنه ذي فضل عليه أو أنه أعلى شأناً منه، علماً بأنه ما تمّ توظيفه إلا لخدمة هذا المواطن؟
في طوفان الفساد وفي لحظة من صحوة الضمير قال أحد كبار الفاسدين، لقد سرقتُ وأنا تلميذٌ صغير طباشير من الصف، ثم ذات سنة وأنا ما زلت دون الثانية عشرة من عمري سرقت مدفأة نفطية من مدرستي يوم الجمعة وأخذتها للبيت، رحبت بي أمي وشعرتُ بأنها سعيدة جداً، لم تسألني من أين أتيت بها ولم يسأل والدي عن مصدرها حينما عاد إلى البيت، أحسست بأن الأمر عادي وقد أسعدتهما بذلك! ويوم إعلان سقوط نظام الرئيس صدام حسين، وفي خضم عمليات السلب والنهب العلني شاهدتُ أحد الموظفين الذي كان يؤم المصلين أحياناً بغياب الإمام، قد ملأ سيارته البيك آب بمقتنيات من أحد المعسكرات القريبة من بيته، فقلت له ما هذا يا رجل؟ أجابني وهو فرح بأنها غنائم!
كانت تلك الممارسات من إنتاج منظومة تربوية اجتماعية متوارثة لا ترى السرقة عملاً دنيئاً ولا الاختلاس أو نهب المال العام جريمة مخلة بالشرف، ويدرك العراقيون وغيرهم من الشعوب أنَّ معظم عمليات النهب والسلب التي جرت في تاريخ بلدانهم منذ الغزوات وحتى اليوم، نتيجة لتلك الموروثات المتأصلة إلا من رحم ربي، حتى أن فاعلها لصاً كان أو فاسداً أو مرتشياً أو مختلساً كان يعتبر إنساناً شجاعاً يتباهى بلصوصيته كما يتباهى اليوم فاسدو الدولة بما جمعوه من سحت حرام معتبرين عملهم فرصة العمر في تحصيل الأرزاق. أين الحل وما سبيله؟!
سؤال أكثر إيلاماً من إجابته التي يحتار المرء فيها مع تلاطم أمواج الفساد تحت حكم نظام سياسي فاسد من أخمص قدميه حتى قمة رأسه، فقد اختلط الحابل بالنابل، وأصبح القاضي والجلاد شخصاً واحداً، وغدا الفساد وينابيعه وأسباب انتشاره حديث الجميع فاسدين وغير فاسدين، في هستيريا الاستعراض والقيل والقال من حديث العامة والخاصَّة، دونما إيجاد حل لإيقاف هذه الحمى النزفية التي تنخر الأجساد والكيانات، وتحيل الأوطان الجميلة إلى مساكن هزيلة يضمحل فيها البشر.
ترى هل ما زال الكي آخر العلاج، ووضع الملح على الجرح يشفيه!؟