رجال ألمع، قرية تغفو بين وديان جبال عسير دون ضجيج المدن وزعيق منبهات السيارات والأجهزة الحديثة، بيوت وحيوات لا ترغب بالكهرباء في بيوتها لأنها تعتمد على قوة البصر والبصيرة وحياة الطبيعة الخضراء وجبالها التي أعطت لرجال ألمع بعض صفاتها؛ قرية تأخذك إلى الماضي وتقاليد القرية العربية الأصيلة بكرمها وشجاعة أهلها وأهازيج الحاج "طرشي" وهو يحمل بندقية "البرنو" الذي أهداها الملك الأول المؤسس عبد العزيز آل سعود إلى أبيه، في مراسم استقبال تشعرك أنك بين أهلك وهم يشاركونك تلقائية السلوك والبساطة وتلك الروح المفقودة في المدن الحديثة.
إقرأ أيضاً: الموسيقى الحاضن الوطني الجميل
انطباعات راسخة في الذاكرة تؤلف صفحات من زيارتنا الأولى للمملكة والتجوال بين مدنها الحديثة الرياض وجدة والدمام، كذلك الحج لمدنها المقدسة مكة المكرمة والمدينة المنورة، وكل شيء ينهض بالجديد والحضارة التي تباري المدن الكبرى بالعالم؛ مدن شاهقة تناقش الفضاء بجمالياتها وقرى وديعة تحافظ على موروثها النقي بالهواء البري وتلاحين الطبيعة، كان هذا قبل 16 عشر عاماً، وحكاية الحاج "طرشي" إيقونة قرية رجال ألمع الذي كان وقتها يربو على الثمانين عاماً، وعندما قلت له إنَّ "الطرشي" كلمة محلية عراقية وهي من مقبلات الطعام... كيف وصلت إلى رجال ألمع قبل ثمانين سنة؟ فقال: كان خالي يعمل في العراق وقد عاد في يوم ميلادي وهو يحمل معه هدايا من العراق ومنها علبة كبيرة فيها طرشي، والدي أحب مذاق الطرشي فقال نطلق على المولود الجديد اسم طرشي. ومن المفارقات أيضاً أن الحاج طرشي لا يقرأ ولا يكتب، لكنه حافظ لعشرات من قصائد الشاعر أبو الطيب المتنبي. وكان يتغنى بالبيت الشهير للشاعر الأخطل:
ما كنت أحسب أن الدخن فاكهة # # # حتى مررت بوادي آل عماري
تسعة عقود ونيف؛ ذلك هو العمر المجيد الذي طوت بها المملكة العربية السعودية تاريخاً من التقدم والتطور الحضاري، احتاجت فيه دول أوربا قروناً من السنين لكي تبلغه، ولعل السنوات العشر الأخيرة التي خرجت فيه منظومة الحكم والقرار نحو مساحات التفكير خارج الصندوق حيث تتفتح آفاق الإبداع والإختراق والتحدي تمثل ذروة العصف نحو التفوق العالمي وبلوغ العلا، ولم نتحدث عن وصف انطباعي للتقدم المعماري وحداثة المدن الخضراء نيوم المدينة التي ستغير وجه الحياة ومشاريع أوكسيجون والهيدروجين الأخضر، والتحول البيئي والمدن العائمة وسط البحار واستثمارات الطاقة والصناعات الثقيلة وعالم التطور الرقمي ومستويات التعليم الجامعي والأكاديمي وحسب، بل في تلك التحولات الاجتماعية التي ألغت أنواع التابوات التي أحاطت الدولة والمجتمع بقيود أثبتت خطوات التقدم عدم صلاحيتها مع الدول التي تسابق الزمن في خطواتها العملاقة نحو المستقبل، إذ تتحكم بالعالم الجديد قوة العقل والاقتصاد وسلاح العلم الحديث والذكاء الصناعي، تلك مقدمات راسخة أصبحت في بناء السعودية العظمى وهي تمازج الأصالة بالحداثة.
إقرأ أيضاً: القربان الحوثي بعد غزة والقادم أخطر!
لا يمكن اختصار ما أنجزته السعودية في مشاريع رؤية المملكة في 2030 وعلى جميع المستويات، لكن بإشارات محدودة يمكن التعبير عن حجم الإنجاز، فالمملكة تعد واحدة من أهم عشرين اقتصاد عالمي، وتقف مع الدول العشر الأولى في الابتكار أو مايعرف بالـ Top Ten، وأحرزت دوراً ريادياً في اتفاقات الكاربون والحفاظ على البيئة ومعالجة التصحر وتحويل الصحارى إلى مدن خضراء، كما بلغت مستويات متقدمة عالمياً في ميادين البحوث والتعليم الجامعي؛ مشاريع عملاقة في بناء الدولة والمجتمع السعودي، كذلك نهضت بدور الشقيق الساند والداعم للدول العربية وعقد معاهدات صداقة وسلام وتوطيد الوئام بين دول الإقليم ودول آسيا وأفريقيا، وكذلك في دعم قضية فلسطين وبذل أقصى الجهود في مساعدة الأشقاء الفلسطينيين وإقامة دولتهم الوطنية، وكذلك دعم بقية الأشقاء العرب في مشاريع استثمار وتطوير وتنمية مستدامة.
إقرأ أيضاً: الديمقراطية الطائفية = دكتاتورية بثياب ملونة
تحولات نوعية تاريخية تعيشها السعودية تتجلى بحقائق تجعل كل عربي ومسلم يشعر بالفخر والقوة، وذلك درس بليغ قدمه قادة البلاد بحكمة القيادة الرشيدة التي كرست الجهود والموارد البشرية والمالية بهدف الانعطاف التاريخي نحو التقدم الذي يجعل السعودية تقف إلى جوار الدول الكبرى بندية عالية؛ قيادة لم تجنح توجهاتها نحو صناعة السلاح والحروب والميليشيات والعودة للكهوف، بل الصعود نحو الذرى ومعانقة الشمس بمنجزاتها وخطوات التفوق العالمي.
وهنا يكمن التعريف الصادق لقيادة المملكة وجلال ثيمتها التي يخلدها التاريخ والأجيال القادمة.