لا أدري ما الذي حفّزني وجعلني أعزم على التسكّع وآخذ فسحة للتجوال في شارع الرشيد العريق، ثقافياً وتجارياً، وسط بغداد، رغم علمي أن معظم معالمه قد اندرست وصارت أشبه بالحطام كبقية أشيائنا الجميلة؛ فلم يعد هذا الشارع الذي يعتبر شريان بغداد يؤنس السابلة والعابرين، وقلتُ في نفسي محاولاً إقناعها: ربما أجد ما يشفي غليلي، وقد أمرّ في ساحة الميدان وأرى أحد أصدقائي من الانتلجنسيا، الذين كانوا يملأون مقهى البلدية وأم كلثوم، وأعرج على مقهى الزهاوي المسماة باسم محمد مهدي الزهاوي، الشاعر المجدد ذي التوجهات المدنية وقتذاك، أو حسن العجمي، وأقرأ كل صحف اليوم بثمنٍ زهيد جداً ثم أردّها إلى البائع ليعيرها إلى غيري ليقرأها هو الآخر كما كانت العادة متبعة يوم كنّا فتية مدمنين نهمين على القراءة المتواصلة، وقبل أن يضعف البصر؛ ويمارسها باعة الصحف الذين يفترشون رصيف المقهى دون أن نكلف أنفسنا عناء شراء كل الصحف اليومية الصادرة بسبب إفلاسنا وخواء جيوبنا.
سأقضي نهاري وأتناول طعام الغداء بوجبة خفيفة، عبارة عن سندويشة الجبنة الشهية من دكان الحاج زبالة الشهية المذاق، لكنها ليست شهية الاسم، واتناول عصير الزبيب الطيب المذاق لأبلّ ريقي وأسدّ رمقي، وأعرج على شارع المتنبي وأرى أصدقائي باعة الكتب يفرشون الرصيف ببسطياتهم، إذ كثيرا ما تعاملت معهم شارياً وبائعاً أو مقايضاً أو مستعيراً كتاباً لأمَد محدود لقاء مبلغ بسيط، عندما يكون الكتاب غالياً ونفيساً، وأنا الذي كنت خاوي الجيب إلاّ من القليل الذي يقيم أوَدي، لكنه يشبع عقلي معرفةً ويقيم أود معدتي.
سأمرّ على باعة القرطاسية وأشتري بنداً من الورق الأسمر الرخيص، حينما أهمّ في الكتابة، فليس لديّ مال كافٍ، وقد ألتقي بأحد معارفي من السلف الصالح - كما نسميهم تندّراً - ونقضي أوقاتاً في قهوة الشابندر لمناقشة مسألة ما، وقد نتخاصم ونختلف ونتشاجر، ويذهب كل منا إلى بيته حانقاً، لكننا نعود ونلتقي مجدداً في لقاء عابر دون موعد مسبق، ونمدّ أيدينا نتصافح ونعانق بعضناً بعضاً رغم اختلافنا الشديد في وجهات النظر، وكأن ذلك الشجار الفكري تبخّر في غمضة عين؛ وعدنا إلى سابق عهدنا صديقين حميمين رغم اختلافنا الشديد في وجهات النظر.
ولأني أحب دجلة ونوارسها وجسورها ومراكبها التي تتمايل مع موجات النهر، فلا بد لي أن أقف وأتطلع على مشاهد هذه الطيور البيض وهي تلعب على سطح الماء وتعاود الطيران إلى الأعلى وتلقف ما تجود به نعَم الله في مناظر خلاّبة وبأسراب قريبة تؤنس الأنظار ونكاد نلمسها باليد.
ولا أنسى أن أنسلّ على شارع النهر المحاذي لشارع الرشيد، حيث النسوة البغداديات ينتشرن كالزهور ويتطلعن إلى المعروضات الجميلة في واجهات المخازن والمصوغات الذهبية التي تؤسر القلب، وكأنهن في مهرجان حافل بالجمال والنزهة البريئة وسط شارع حيوي يزهو بزائريه ويحفل ببضائعه المنتقاة بعناية، وقد أختارُ هدية ًمناسبة لزوجتي رفيقتي في رحلة العمر كما كنت معتاداً أول ارتباطنا معاً في رباط مقدس وعهد زواج كنا عقدناه في ذات المحكمة الرابضة في مكانها وسط شارع النهر هذا.
وعلى بعد أمتار قليلة، سأرتقي السلّم صاعداً إلى "اورزدي باك"، هذه البناية التجارية الجميلة الطلعة المصممة على الطراز الفرنسي، وأدور في اقسامها التي تخلب الألباب بسحر تنظيمها وجودة معروضاتها وجمال ورقيّ بضائعها، وأستريح قليلاً في الكافتيريا في الطابق العلوي، وأحتسي القهوة وأنا أنتشي برؤية المتبضعين وضحكاتهم وهم ينتقون أحلى الملابس وأرقى العطور الفرنسية وأفخر الأدوات المنزلية منها المستوردة من المناشئ الراقية.
وبعد أن يأخذني التعب وتنهك قدماي من المشي حين يأتي المساء، أيمم وجهي صوب مقهى أم كلثوم، لأعود مجدداً إلى الميدان، فقد اشتقتُ إلى صديقي العتيد عبد المعين الموصلي مالك المقهى، لنستمع معاً إلى سهرة القدود الحلبية كل مساء جمعة، ونتمايل غنجاً وسحراً مع صوت المطرب المتفرد صباح فخري، الذي يذهب بنا بعيداً إلى مدارج الطرب العليا، ويقعدنا في محفل السلطنة الوثير بقدوده الحلبية، حتى إذا قربت الساعة منتصف الليل، أهرول إلى موقف آخر حافلة حمراء ذات الطابقين، لأني أعرف توقيت انطلاقها الأخير الدقيق، لتقلّني إلى بيتنا في إحدى الضواحي البعيدة عن مركز بغداد.
أتراني أحلم يا قارئي العزيز! وما الضير في ذلك إذا كان الواقع المعاش مريراً؟ والحياة البهيجة التي عشناها قبلاً قد وضعت أوزارها وانصرفت عنا إلى غير رجعة، وما نراه الآن من خراب وتدمير لمعالمنا الزاهية يحتّم علينا أن نسترجع ذلك الألق الوضّاء في ذاكرتنا بين آنٍ وآخر. والحلم صديق يلازمك مثل ظلّك بينما يرحل الأحبّة الآخرون، وتختفي الأماكن العالقة في الذاكرة، فالحلم هو آخر من يرحل من الأصدقاء، فدعوني أصحبه قليلاً في جولتي قبل أن يغادرني ويلّوح بيديه مودّعاً.