بإختيار ريشي سوناك رئيساً للوزراء في الظرف الحالي، الذي يُعَد الأكثر إضطراباً للتاريخ السياسي البريطاني الحديث، أثبتت بريطانيا العظمى فعلاً بأن الشمس لا تغيب عنها مهما غطّت الغيوم سمائها، ليس فقط شمس الشرق، الذي لا زالت آثارها شاخصة فيه، وأبناءه رعايا وحُكّام لها، بل وأيضا شمس الحكمة والنظرة الإنسانية الواعية إلى المستقبل.
دخل سوناك السياسة متأخراً عام 2015، لكن صعوده فيها كان سريعاً، فقد فاز على الفور بمقعد مجلس العموم عن حزب المحافظين في دائرته الانتخابية شمال يوركشاير، ولم يستغرق الأمر سوى خمس سنوات ليصل إلى ثاني أعلى منصب في البلاد عام 2020، حينما عينه جونسن وزيراً للخزانة. بصفته وزيراً للخزانة، قاد سوناك البلاد عبر جائحة كورونا بنجاح، عبر طرحه برنامج بقيمة مليار دولار على غرار مزايا العمل قصيرة المدى في ألمانيا، أنقذ ملايين البريطانيين من فقدان وظائفهم. لذا ينظر إليه الكثير من البريطانيين على أنه كفوء ويريد المساعدة.
عدم فوزه في المرة السابقة لم يكن لأسباب عرقية ودينية كما روج البعض، بل لأسباب سياسية بحتة، وإلا ما كان جونسن ليعينه وزيراً للخزانة، لكن إنتقاده لجونسن في خطاب استقالته، جعله بالنسبة لبعض أعضاء حزبه سبباً في سقوطه شعبياً. لهذا خسر أمام زميلته في الحزب ليز تراس أوائل سبتمبر، عندما رشح نفسه لخلافة جونسن، لكنه عاد وإستفاد من فشل خطواتها الضريبية. يحاول سوناك تقديم نفسه كنموذج للسياسي المحافظ الحديث من خلال إبتسامته الدائمة وستايل ملبسه ونزوله للعمل كباقي أبناء الشعب، وحرصه على أن يظهر كرجل عائلة متواضع، يزور المعبد كهندوسي مُتدين مرة، ثم يجلس خلف منضدة في حانة-كبريطاني مرة أخرى. لكل هذه الأسباب يأمل البريطانيون أن ينجح سوناك في توحيد حزبه والبلاد، لأنه يحمل ثقافة مجتمع قَدّم ويُقدِّم عالمياً أروع أمثلة التعايش، مجتمع إختارت أكثريته الهندوسية رئيساً من الأقلية المسلمة رمزاً لها، ورموزها السينمائية البوليوودية الذين تباهي بهم العالم وتحج إليهم يومياً لتُحييهم مسلمين. لذا ربما كان مقصوداً منه إعلان فوزه تزامناً مع عيد ديوالي، ليوصل من خلاله رسالة عن التعايش والتسامح والوحدة.
تراجع إلاقتصاد البريطاني، والعلاقة مع الإتحاد الأوروبي، وتداعيات كورونا، وحرب أوكرانيا، هذه الملفات وغيرها، كلها تمثل تحديات لرئيس الوزراء الجديد، الذي على الرغم من الإحتفاء الذي ناله من قبل زملاءه في الحزب عند إعلان فوزه، إلا أنه لا يستطيع الإعتماد على دعمهم في جميع القضايا، وخصوصاً الاقتصادية، أو فيما يتعلق بأيرلندا الشمالية. يمكنه ربما فقط ضمان تأييدهم له حينما يتعلق الأمر بالتعامل مع روسيا ومواصلة دعم أوكرانيا، أو ملف الهجرة الذي يعتبر مِن المُتشددين تجاهه لما لديه من خبرة، كونه هو نفسه من عائلة مهاجرة، لذا يعلم أين تكمن سلبيات وإيجابيات ظاهرة الهجرة، وكيفية تجَنّب وإبعاد الأولى، والإستفادة من الثانية، عِبر تشريعات تُنَظِّم كل ذلك، بدل السياسة العشوائية المبنية على بعض السذاجة التي تنتهجها أغلب الدول الأوروبية ومنها بريطانيا تجاه ملف الهجرة، التي لم تعد عَمَلية بل وباتت تضُر بأمن بلدانها، بسبب تراخيها وعجزها عن مواجهة محاولات بعض الجاليات تغيير قيَم المجتمع الأوروبي المبنية على الحرية والمساواة والإنسانية وإحترام حقوق الإنسان.
لأن في أمريكا "الإمبريالية" يمكن لمواطن من أصول كينية أن يصبح رئيساً للجمهورية، وفي بريطانيا "الإستعمارية" يمكن لمواطن من أصول هندية أن يصبح رئيساً للوزراء، ستبقى هذه الدول تحكم العالم الى حين، لأنها تستحق ذلك وأهل له. وليس الصين "الشعبية" أو روسيا "الإتحادية"، التي يُغَيّر فيها رؤساء مختلون دساتير بلدانهم بجرة قلم، كي يجددوا لأنفسهم عشرات المرات، أو ليبقوا في الحكم مدى الحياة، لينشر أحدهم الأوبئة، والآخر الحروب، حول العالم، لأن هذا الأمر يناقض الفطرة الإنسانية ومنطق التأريخ. وهذا ما لا يفهمه الأغبياء الذين بات يعج بهم العالم، نعم الأغبياء، لأن لا طريقة أخرى لوصفهم. نظام شمولي سحل رئيسه السابق من الإجتماع لأنه لم يصفق لرئيسه الجديد، ونظام إنساني راقي أوصل مواطن من أصول أجنبية هندية الى رئاسة الوزراء، ولا زال الكثير من مرضى الآديولوجيات الشمولية يعتبرون النظام الأول تقدمي والثاني رجعي، ويتوقعون ويأملون ببلاهة أن ينتصر أمثال الأول على أمثال الثاني ويقودوا العالم!