إيلاف من أصيلة:في أصيلة،ضمن برنامج محاضرات موسمها الثقافي الدولي ال45، في دورته الصيفية،جاءت محاضرة الفنان البلجيكي ميشال بارزان،الخميس،أعمق وأشمل،هو الذي كان من المنتظر أن يقدمها تحت عنوان"تاريخ فن الحفر وتطوره".
أعلن بارزان،منذ البداية،نيته التخفف من صرامة التقيد بمتطلبات محاضرة تتناول "تاريخ فن الحفر وتطوره"،حين قال إنه لن يقدم عرضا حول تاريخ الفن،بل جولة يستعرض فيها تأملاته كفنان في علاقة بالتاريخ والعالم والآخر.
جانب من المحاضرة
في معرض تأملاته، تحدث بارزان عن طبيعة الفن وتجارب الفنان، وعن قراءاته وتعاطيه مع الآخر، وتوقف عند العالم ومفارقاته. كما تحدث عن رحلة الورق، وكيف أضحى الورق شاشة. وانتقد دكتاتورية العولمة وطغيان الانترنت، محذرا من تصحر ثقافي. ثم، استحضر ما يجري في غزة، متسائلا عن الذي يستطيعه الفن في زمن الحرب والخراب. ورأى أن الفن ليس بريئا، وليس ترفا؛ وقال إنه التزام.
فكر وذكاء ودهشة
قال بارزان « إننا لا يمكن أن نتخيل العالم من دون إنسانية، ومن دون فضول »، مشددا على أن حالة العالم تتطلب منا إعمال النظر والخيال والبحث،مشيرا إلى أن المجتمعات لم تقم على نموذج واحد.وأن الأمر يتعلق بمجتمع عالمي متعدد.مجتمع يبنى على الاعتقاد والتربية.
وشدد على القول"إننا نبحث دوما عن هناء الفكر، ونحتاج الذكاء،كأساس للدهشة، فيما يصلح الفن لمقاومة الملل، إذ يترجم المشاعر كيفما كانت، هادئة أم صاخبة".
قرص أسبرين
استعاد بارزان فترة جائحة "كورونا"، وكيف صار وقتها من المستحيل، في بلجيكا، إيجاد مناديل المراحيض. لذلك اضطر الناس إلى تخزينها. وأضاف: "في سياق آخر، نشتري علبة أسبرين، مكونة من ثلاثة ألواح، كل لوح به تسعة أقراص. يذكرني هذا بجولة قادتني إلى المكسيك. كنت، هناك، برفقة صديقة فنانة، وحدث أن ألم بها صداع، فقصدت صيدلة، اقتنت منها قرصا واحدا خفف من ألمها". وأضاف: "في الواقع، مخزوننا من الأسبرين، مثلا، لا يفعل أكثر من طمأنتنا وليس علاجنا. في منازلنا أدوية كثيرة لا تنتظر إلا نهاية صلاحيتها".
شمال وجنوب
في سياق التأملات ذاتها ، سينشغل بارزان بوضع مقارنات بين طبيعة الحياة وطرق التعاطي معها، في شمال وجنوب العالم. فقال: "في بلادي، بلجيكا، الحافلات تنطلق في وقتها حتى وهي فارغة من الركاب. في كنشاشا، نسافر دائما في حافلات مكتظة بركابها؛ فتوقيت الانطلاق يتم بعد امتلاء الحافلة أو سيارة الأجرة بالركاب. فقط، حين تمتلئ الحافلة أو سيارة الأجرة، تنطلق. في بروكسل، الأطفال محميون، فقد أعددنا لهم أماكن لعب مسيجة، حتى لا يصيبهم مكروه. السؤال الذي ينبغي أن يطرح: لماذا هذا الخيار؟ يبدو الأمر، هنا، كما لو أننا نحمي
من مداخلات الجمهور خلال المحاضرة
المجتمع من الأطفال؛ مع أن المشكل الحقيقي هو هل الكبار وراء مقود السيارة يشكلون خطرا على أطفالنا ؟ ثم، لماذا لا نغلق الأبواب على البالغين إذا كانوا يمثلون خطرا على الأطفال ؟".
وأضاف: "هذا لا يحدث في أصيلة. هنا الأطفال يعودون من الشاطئ. يقطعون الطريق من غير الأماكن المخصصة للراجلين، فيما السيارات تخفف من سرعتها. نحن إذن مختلفون. نختلف في التربية، وفي الثقافة، وفي الدين، وفي المناخ وفي القدرة الاقتصادية. نختلف حتى في ما يشغلنا. وقد كان لي حظ الوقوف على هذا الاختلاف على مدى القارات الخمس، بفضل مهنتي كفنان، وتحديدا كفنان حفر".
الآخر
أشار بارزان إلى أن اللقاء بالآخر، والوقوف على شكل آخر من تنظيم الحياة "يغيرنا منذ اللحظة التي يكون لدينا فيها فضول لمعرفة الآخر، بشكل يؤثر على فعل الابتكار والقدرة على الخلق لدينا"؛مشيرا إلى أن هذه التجربة التي تقوم على التبادل والحوار هي إثراء جميل، فيما كلمات، مثل التسامح والتعاطف ليست مفردات تلقى هكذا في الهواء من دون أثر أو مفعول.
وشدد بارزان على أن تجربته توسعت بفضل لحظات اللقاء بالآخر، وهو شيء قال إنه حدث معه حتى في شق التعليم ونقل المعرفة.ففي أستراليا أو كندا أو الصين أو الكونغو، أو بلجيكا مثلا، تعلم من محاوريه وطلابه أكثر مما أضافت إليهم دروسه.ولكن الأمر ليس سهلا، وليس مضمونا بشكل مسبق، يضيف بارزان، الذي سيستحضر الفنان المغربي الراحل محمد المليحي، الذي قال عنه إنه كان يقول لمن يرغب في سماع حديثه إن الغرب لا يملك حق احتكار الإبداع والابتكار، كما أنه ليس مركز الكون.
وأضاف بارزان أن الغرب استغل طويلا الوضع ليكون القائد الأوحد للحياة الثقافية والاقتصادية في العالم، بعجرفة وعنف. وزاد قائلا :" إننا ندين كثيرا لثقافات أخرى، وأنه يكفي أن نفتح أعيننا لنقف على أن ابتكارات واختراعات عديدة خرجت من كل بقاع العالم، وليس فقط من الغرب".
واستعرض بارزان، في هذا السياق، إسهامات شعوب وأمم عديدة، ذاكرا الفرس والعرب، وقبلهما الأزتيك. ثم توقف عند الصينيين وكيف اخترعوا الورق، قبل ألفي سنة، وهو الابتكار الذي قال عنه" إننا ما زلنا نستعمله إلى اليوم".
وأشار بارزان إلى أن الورق يطبع بسهولة، قوي وخفيف ويحمل بسهولة، مكن من سفر كلماتنا وصورنا بعيدا. كما أنه سافر عبر أفغانستان والهند وصولا إلى بلاد العرب. وبعد فترة، إلى إسبانيا، ثم احتاج قرنا لكي يصل إلى قلب أوروبا، وقرنين آخرين لكي يعبر المانش إلى إنجلترا.
الورق أضحى شاشة
تحدث بارزان عن اختراع الطباعة مع غوتنبرغ، وكيف سيشهدالعالم نقلة كبيرة. وشدد على أن الصدفة والذكاء البشري لا يمكن إلا أن يزيدا من تغيير وتطور الأوضاع، ليتحدث عن مستجد الليثوغرافيا، والآفاق التي ستنفتح أمام الفنانين.
وتوقف بارزان عند الراهن، فقال إن الإعلاميات تأخذ السلطة، شيئا فشيئا، والورق أضحى شاشة، والأماكن العمومية عوضت بالتلفزيون ووسائل التواصل الاجتماعي، مشيرا إلى أن الانترنت صار أسرع من الملصقات الورقية، فيما ستفرض دكتاتورية العولمة جبروتها إذا لم نأخذ حذرنا، ونتخفف من طغيان الانترنت، الذي يقوم بتجفيف كل شيء. وشدد على أن العولمة هي نقيض الفضول، وحذر، قائلا إننا قريبون من الصحراء الثقافية.
الأماكن كلها
قال بارزان إن الأماكن التي عشنا ونعيش فيها لها أهميتها، داعيا إلى عدم التخلي عن الجذور والأصل، مشددا على أن القيام بذلك لا يعني أننا متخلفون، بل على العكس، ذلك ما يمنحنا طاقة للتجدد.
وعاد بارزان، في هذا السياق، ليستحضر، مرة أخرى، المليحي، الذي قال عنه إنه ضمّن أعماله وانشغالاته الفنية ثقافة المغرب، مع التجديد في فنه. وشدد على أن الأمر يتعلق بالتعلم من حيث نرغب دون القطع مع الجذور، ومن دون خوف أو رهبة.
غزة
أنهى بارزان تأملاته بالإشارة إلى أنه كان في لبنان، أخيرا، تلبية لدعوة محترف فن الحفر ببيروت، مشيرا إلى أنه عرف، هناك، ما يعنيه ويمثله الفن، في بلد يجاور غزة.
وتساءل: "ماذا يمكن لصورة أن تقوله حين نفقد منازلنا، وأطفالنا وعائلاتنا؟ هل نقوم بالرسم ؟ نقوم بالنحت ؟ نقوم بفن الحفر ؟ ثم، لماذا مواصلة القيام بذلك ؟ أنا متيقن أن الفن ليس بريئا، وفي نفس الوقت ليس ترفا. إنه حيوي، خصوصا في لحظات الأزمة واللا إنسانية ... الفن التزام يجعل الحياة ذكية، ونحن لا يمكننا أن نتخلى عن ذكائنا". وخلص إلى القول : "لكي نبتكر، نحتاج إلى حد أدنى من انفتاح الفكر وإظهار الاهتمام بالآخر".