: آخر تحديث

الرواة الجادُّون

45
37
28
مواضيع ذات صلة

في مكانٍ ما من هذا العالم؛ الكرة الأرضية وغلافها الجوّي، يوجدُ شخصٌ جادٌ يحملُ مخطوطةً حديثة. أفترضُ أنه، ببشريّته التامّة، المتوارثة منذ أجيال، لا يرغبُ في الخسارة؛ بل لا يحبها إذا أردتُ أن أكون دقيقاً.

يقفُ أمام ثلاثة أشياء؛ جميعها منعطفات: إشارة المرور، ومتجرُ العلكة الوطني، وصورةٌ عائلية بالأبيضِ والأسود. في لحظة انشغاله، لحظةٌ واحدةٌ اختطفتُها له من يد سيدةٍ في حديقة الألعاب، تسرّب من المخطوطة جنديٌ وراح ينظّم حركة السير.

الملاحظُ جداً أن الجنديَّ كان أعمى، فقد سمح لسيارتين أو ثلاث بعبور الصورة العائلية ودهس الجدة. مرتان أو ثلاث تتكرر مشاهد دهس الجدة. بينما تنزف دماء خجولة على حافة اللوحة تسرّب قاضٍ من ذات الصفحة، أوه؛ الصفحة العاشرة في المخطوطة، واستعاد الجندي.

يصلُ الطبيب الجنائي ومساعدتُه الحسناء لفحص الجثة، وصلا توّاً من الصفحة السابعةِ حيث انشغلا قليلا تحت ظل شجرة رمّان، كان الروائي يذهب إلى المطبخ ويعود عشرات المرات، يعود إلى مكتبه وينظر في مخطوطته، متسائلاً حول الطريقة الصحيحة لكتابة المشهد. لا بد أنه يخشى غضب الأطباء الجنائيين حين يقرؤون افتراءتِه التخييلية، وربما أقاموا دعوى قضائية ضده. على أية حال، كانت المساعدة الحسناء تعيد ترتيب شعرها بينما انشغل الطبيب في فحص جثّة الطفل الصغير. يظهر طفلٌ صغيرٌ وناعس في زاوية اللوحة اليسرى، يتثاءبُ بوتيرة واحدة، حتى وهو يتنقّل بين المعارض الفنّية ويرقد في كونتيرات الشّحن بين القارات. في لحظة وصول الطبيب ومساعدته الحسناء كان قد وصل إلى مرحلة النوم العميق، فبدأ الطبيب ومساعدته الحسناء في تشريح جثته، وكتب تقريره الذي سيُنشر مبكراً، في الصفحة السابعة عشر من المخطوطة، جاء فيه: سبب الوفاة عمليات دهس متواترة وممنهجة. لا يبدو على الأم أنها تبكي أو تفكر في فعل ذلك في الصفحتين التاليتين على الأقل.

حركة السير منتظمة جدّاً. هذه مدينة الرواة، يركضون كل صباح باتجاه ينبوع الحبكة، إذا لم تحضر، أو إن تأخرتَ، كأن تكون مستلقياً في الصفحة الثالثة والثلاثين تفكر في شجرة رمّان مرّت بك في الفصل الأول، فستفقد سرد ذلك اليوم، وستكون مضطراً للنوم في صفحة نقدية بائسة؛ حيث لا تدفئة، ولا وجبة غذاء صحية، وحيث الجرذان تتسابق لعضّ شخصياتك الروائية التي اكتسبتَها باستحقاق خلال ساعات العمل الإضافية في منجم التبئير.

الأمر سيكون بسيطاً بعد نشر التقرير الشرعي، فمنذُ الصفحة السابعة عشرة وحتى مشهد مغادرة الأب الصورة العائلية في الصفحة الواحدة والخمسين، لا يوجد مشاهد درامية، كل شيء يسير بوتيرة واحدة. نحن نتذكرُ، جميعاً وبلا استثناء، أن الطبيعة الإنسانية لا تحبُ الخسائر، وسبق أن وصفها روائي روسي بأنها طبيعةٌ بشرية لا تتوافق مع السرد.

في الصفحة الثانية والخمسين يردُ خطابٌ إلى الأب، وهو بالمناسبة ابن السيدة العجوز المدهوسة التي لم تتعرض للتشريح إمعاناً في تبئير السرد الروائي. نعود إلى الخطاب، وفيه تفاصيل كثيرة تشغل الصفحات العشر التالية، لكن القراء، وهم من مدن أخرى بعيدة تقع بعد مدن الشعراء بساعة او اثنتين على مقياس الدراجات النارية، كما تقع بجوار منفى التشكيليين بألوانهم الغرائبية وأظافرهم الحاملة للطلاء والكينونة الفنيّة وأشياء أخرى. 

مرّة لاحظ كاتبٌ، من فيتنام، عدم جلوس الفنانين التشكيليين في ظل أشجار الرّمان، وقال إن الدراسات تثبتُ ذلك. 

القراء، وقد جهلوا تماما ما ورد في الصفحات العشر قالوا إنّ لغةً تشبه صوتُ صفير عامل المقهى حين يغفو هو ما كُتب به هذا الخطاب، وأنهم سيحتاجون إلى ترجمة دقيقة وحيوية لما جاء فيه، لأن الأب غاب في الصفحات السبع التي تلي الصفحة الثانية والستين، ثم عادَ وقتل الأم!.

ستة نجارين من المتطوعين ذهبوا للبحث عن الطبيب الشرعي تحت شجرة الرمان. ستة رجال إطفاء ساهموا في نزع فتيل أزمة افتعلها الروائي في ثلاث صفحات تالية لإلهاء القراء، ستة عمال نظافة وستُ حسناواتٍ وستة أساتذة جامعيين دخلوا رهاناً على ما ستفضي إليه هذه الحبكة من نتائج.

أووه، سيبدأُ متجر العلكة الوطني الظهور في الصفحة الثالثة بعد المئة، سيكون على الروائي ربطه بحادثة تشريح جثة طفل ناعس بدلاً من الجدة، وتبرير عملياتِ الإلهاء الفني طيلة صفحات كثيرة من المخطوطة. المتجر ذاتُه سيقوم بنسج رواية يبرر فيها سقوط جندي أعمى وتوجيهه لرواة مسرعين نحو ينبوع الحبكة إلى الجهة الخاطئة. ليس هذا فحسب، بل لا بد من وجود نعي أدبي مناسب يليق بجنازة الجدّة. في الصفحة الثالثة عشرة بعد المئة يُطلِق جنديٌ، آخر، ثلاث رصاصاتٍ تكريماً لروح الجدة "المدهوسة"، ربما بعد صفحتين أو ثلاث ستصيب واحدةٌ من الرصاصاتِ الثلاث أستاذاً جامعياً؛ يسقط شهيداً، ويستمرُ الخمسة، هم كل (ما) بقي من الأكاديميين، في متابعة ما يحدث لمحاولة كسب الرّهان. سيكون على الراوي، وهو جادٌ بالضرورة، أن يستيقظ صباح كلّ يومٍ لعشرة أيام متتالية، والركض مع بقية الجادين، للتنقيب عن حبكةٍ مناسبة يبررُ فيها تناقص عدد الأساتذة الجامعيين تحديداً، إذ لم تصب الرصاصة أياً من عمال النظافة الستة؟!.

في اليوم التالي، كانتْ أول حبكة يجدها الروائي الجاد تقول: "ينحني عمال النظافة لهذا لا تصيبهم رصاصاتُ تأبين الجدة"، لم تعجبه، لكنه حملها معه على أية حال، فقد كانتْ ضمن عرض مجاني يسري على مواد بيع التجزئة في زاوية الحبكات التبريرية في الروايات المحلية للصفحة مائة وخمسين وما يليها. حملها معه، فربما كتب يوماً كتاباً ممتازاً عن علاقة الطبخ بأشجار الرّمان، من يدري.


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.

في ثقافات