يشير عالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر في كتابه "المادية الجدلية" إلى أن الإنسان نشاط خلاق وهو ينتج نفسه من خلال نشاطه، إنه ينتج نفسه، لكنه ليس ما أنتج. وحينما يشكل الطبيعة وفقًا لمتطلباته، يعيد تشكيل نفسه في مجرى نشاطه.
إيلاف: يعد كتاب "المادية الجدلية" للفيلسوف وعالم الاجتماع الفرنسي هنري لوفيفر من أهم كتبه، حيث ينقد فيه الجدل الهيغلي والمادية التاريخية والمادية الجدلية، ووحدة المذهب، كما يناقش إنتاج الإنسان عبر الحتمية الفيزيائية والحتمية الاجتماعية وغيرها حتى يصل إلى الإنسان الشامل.
يشير لوفيفر إلى أن الإنسان بدأ في الأصل كقطعة متواضعة من الطبيعة، بوصفه أضعف الكائنات البيولوجية كلها وأشدها عريًا، لكن أضعف الكائنات يخوض المعركة ببسالة، فيصبح ماهية منفصلة عن الوجود الطبيعي، معرّضًا للهجوم، ولكنه قوي. وهذا الانفصال جوهري، فالإنسان لم يعد ولا يستطيع أن يكون الطبيعة، ولكنه لا يوجد إلا فيها وبوساطتها.
العنصر الأضعف
يضيف لوفيفر في كتابه الذي ترجمه المفكر المصري إبراهيم فتحي، وصدر أخيرًا من دار آفاق، موضحًا أن هذا التناقض يعاد إنتاجه، ويصبح أكثر عمقًا أثناء العملية الفعلية التي يجب أن تؤدي إلى سيطرة الإنسان على الطبيعة. فالإنسان نشاط خلاق، وهو ينتج نفسه من خلال نشاطه، إنه ينتج نفسه، ولكنه ليس ما أنتج.
فنشاطه يخضع الطبيعة شيئًا فشيئًا، ولكن سرعان ما تتحول سيطرته ضده، وتتخذ سمات طبيعة خارجية، وتتخذ سمات طبيعة خارجية، تدفع به إلى الحتمية الاجتماعية التي تفرض عليه معاناة رهيبة. ليس الإنسان هو تلك الحتمية، ولكنه بدونها لا يغدو شيئًا، ففي المحل الأول لا يوجد الإنساني إلا في غير الإنساني وبوساطته، فالإنساني لا يعتمد على الطبيعة فحسب، بل هو أضعف عنصر حتى في المجتمع أيضًا، والإنسان يعارض الفظاظة البيولوجية التي يخضع لها بطريقة لا تقلّ فظاظة: بالقانون والأخلاق والفكر الغيبي.
يقول "هكذا يصبح الإنسان ممزقًا بعمق. ولكنه بفضل هذا التمزق وحده يستطيع تشكيل نفسه، ولنبدأ بأن ذلك ليس إلا تناقضًا بينه وبين الطبيعة، وداخل نطاق ذلك التناقض يؤثر كل من الحدين في الآخر تبادليًا، وتنتقل خصائص كل حد إلى الآخر، وبعد كل حد للتناقض يعاود التناقض الظهور في شكل أكثر عمقًا ودرامية، لأن الوحدة التي تم الوصول إليها كانت أعلى وأكثر وعيًا. وحتى الآن فإن الأنشطة التي تغلبت بالفعل على الأشكال الطبيعية للتناحر "الممارسة والفكر والروح التي تستتبع وحدة باطنة معينة وتسيطر على العالم الخارجي" لم تؤد إلا إلى جعل الأمر أكثر سوءًا بالنسبة إلى تمزقات الإنسان وصراعاته وإلى جعل الإنسان يستشعرها بحدة أكبر.
الجوع والجنس
يرى لوفيفر أن الإنسان يحتوي على كثرة من الغرائز والميول والقومية الحيوية بمقدار ما هو كائن طبيعي، وهو بذلك سلبي ومحدود، فإن الحاجة الموضوعية إلى كائن طبيعي من اللحم والدم تتطلب موضوعًا هو نفسه موضوع طبيعي، فموضوعات الغرائز الطبيعية للإنسان "الجوع والغريزة الجنسية" توجد خارجة ومستقلة عنه، فهو الذي يعتمد عليها، وبذلك تتحوّل حاجته وقوته الحيوية إلى عجز وحرمان.
هكذا تصبح العلاقة بين الوجود والآخر المقابل معطاة في الطبيعة، ويمارسها الإنسان الطبيعي بالفعل كعلاقة خارجية وكتبعية. ولأن هذا الإنسان يتخذ كائنات أخرى موضوعًا له، يصبح هو أيضًا موضوعًا لكائنات أخرى. فهو في اللحظة نفسها ذات وموضوع متضادان، لكن لا يمكن الفصل بينهما: ذات محسوسة معطاة موضوعيًا في كيانها العضوي ووعيها البيولوجي البدائي، وهي بذلك تحتوي على علاقة مع الكائنات الأخرى التي هي بالنسبة إليها موضوعات رغباتها، ولكن هذه الكائنات هي أيضًا ذوات، أي موضوعات محسوسة بالنسبة إلى الكائنات الأخرى.
نطاق الطبيعة
يشير لوفيفر إلى أن الإنسان ليس مجرد كائن طبيعي، إنه إنسان أيضًا، فالطبيعة داخل الإنسان وخلاله تنقسم على نفسها، وتدخل في تضاد وصراع مع نفسها، وهو صراع أشد عمقًا من كل التعارضات السابقة ومن كل أنواع الصراع بين الأفراد والأنواع البيولوجية.
فالإنسان، وهو كائن طبيعي، يستدير ليحارب، الطبيعة بالنسبة إليه هي النبع الأول، هي الأم، ولكنها ليست المادة المعطاة التي يمارس أفعاله عليها. وبمقدار ما تكون الطبيعة خارجية، فهي تصل إلى أن تكون موته ومقبرته. لكن التجربة الوجودية الأخرى، إذا جاز لنا استخدام مصطلح معاصر، لا تقل جوهرية عن ذلك. فلم تعد الموضوعات الإنسانية موضوعات طبيعية مباشرة، ولم تعد المشاعر الإنسانية النوعية، كما تفصح عن نفسها موضوعيًا، هي الموضوعية الطبيعية الإنسانية: أي الرغبة الغليظة أو الحساسية المباشرة.
ويوضح أن الطبيعة تكف عن أن تكون حاضرة مباشرة وبشكل ملائم بالنسبة إلى الإنسان، حقًا إن الإنسان يجب أن يولد ككل كائن طبيعي، وتاريخه هو فعل الميلاد، فعل مجيئه إلى الوجود داخل نطاق الطبيعة، ولكن على الرغم من ذلك خارج الطبيعة وضدها. لقد نصب الإنسان نفسه في مجرى تاريخه فوق الطبيعة، وأخضعها لنفسه ببطء، ويقول ماركس "إن التاريخ هو التاريخ الطبيعي للإنسان"، ولكن هذا الميلاد هو تجاوز، وهو تجاوز واع بشكل متزايد، فالإنسان بفعله يدخل تعديلات على الطبيعة حوله وداخله، إنه يخلق طبيعته الخاصة بتأثيره في الطبيعة، وهو يتجاوز نفسه في الطبيعة، ويتجاوز الطبيعة في نفسه.
سجن الذات
وحينما يشكل الطبيعة وفقًا لمتطلباته، يعيد تشكيل نفسه في مجرى نشاطه، ويخلق لنفسه متطلبات جديدة. وهو يشكل نفسه، ويمتلك نفسه كقوة، وبخلقه موضوعات أو منتجات، وهو يتقدم إلى الأمام بحله في مجرى الفعل، المشكلات التي طرحها فعله الخاص.
يلفت لوفيفر إلى أن الفرد الواقعي سجين قوى خارجية، ولكن هذه القوى هي قواه هو، ومحتواه الموضوعي. وحينما يقهر خارجيتها ويفرض عليها التكامل سيحقق أكمل ازدهار لنفسه. لقد كانت الثروة والحرمان، النظرة الغيبية، والوعي الزائف الأرضي، الثقافة المجردة وانعدام الثقافة، والدولة السياسية والقهر العملي، كانت جميعًا ولا تزال هي التناقضات الجوهرية التي تمزق الواقع الإنساني.
لكن الثروة في ذاتها خير، ووفرة الممتلكات والرغبات تهيئ السبيل لوجود مكتمل، والدولة قوة منظمة والثقافة هي أعلى أشكال الوعي والحياة. حقًا إن للتمائم محتوى، وإن تكن النزعة التميمية "الفتيشية" ترتبط بالشكل، لذلك يعني تجاوزها تناقضهما وإعادة إدماج المحتوى في الحياة العينية للبشر، ومن ثم يجب إعادة إدماج التمتع بالثروة والسلطة المنظمة والثقافة والإحساس بالجماعة والارتباط الحر للأفراد الأحرار الواعين بمحتواهم الاجتماعي.
خطأ الصدق
يؤكد لوفيفر استطاعة الفكر الفلسفي والفعل الفلسفي، اللذين لا يقنعان بموقف صوري خالص أو بوعي نظري صرف، أن يهدفا إلى تجنب الفجوة بين الشكل والمحتوى بالإحاطة المباشرة بمحتوى عيني محدد. يستدرك قائلًا "ولكن إذا انحصرت الحركة التي تمسك بمحتوى جزئي في عنصر واحد من الواقعي، فإنها ستحوّله بالضرورة إلى مطلق، وتجعل منه شكلًا تميميًا "فتيشيًا"، فعلى سبيل المثال قد نمسك بالواقع النفسي للفرد أو بالجماعة القومية أو بالواقع الروحي للإنسان أو بالمطلب الإنساني الهادف إلى الوحدة والواقعية، كأمثلة للمحتوى.
ولكن كل "لحظة" من لحظات الواقعي هذه، بمجرد أن تعزل وتتحول إلى أقنوم، تصبح نافية للحظات أخرى، ثم تصبح نافية لنفسها. فالمحتوى صار محاطًا بالحدود، وتحول إلى شكل، أصبح خانقًا ومدمرًا لواقعيته نفسها، ومن ثم تصبح القومية عدوة لأشكال الواقع القومي، وتسمح الليبرالية للحرية بالهلاك، وتصبح الروحية خصمًا للروح الحية، والفردية خصمًا للفرد العيني، بينما تعارض "النزعة الشمولية" التحقق الشامل للإنسان.
ما بعد البيولوجيا والتاريخ
ويضيف لوفيفر أنه من الناحية الفلسفية فإن الانطلاق بهذه الطريقة يحوّل صدقًا جزئيًا إلى خطأ، وذلك يحدث على وجه الدقة بطرحه كمطلق. إن ذلك يخلق "ما بعد الأشياء". فالعنصرية هي ما بعد البيولوجي. والنظرية القومية هي ما بعد التاريخ أو ما بعد علم الاجتماع.
مثل هذه الطريقة تتضمن كل مخاطر الميتافيزيقا. فإن رفض جزء من المحتوى يكرّس بعثرة عناصر الواقعي ويزيد من تفاقمها. وتلك الطريقة تتجاهل إسهام المجالات الأخرى، وتبدو بذلك كطريقة "ينتهجها باحث ضيق التخصص أو حزبي الأفق". وهي تعبّر عن رد فعل دفاعي للفرد أو لمجموعته، أكثر مما تعبّر عن وعي ينشد حل المشكلات. ولا يبقى أمام العقل الذي يهدف إلى حل هذه المشكلات إلا طريق واحد مفتوح: هو السعي من أجل استيعاب المحتوى الشامل، وهذا السعي هو الذي سيحدد الحياة الفلسفية.