بينما تمضي دول الخليج العربي في تعزيز مسارها التنموي واستقرارها الإقليمي، تتوالى محاولات التشويش على هذا التوجه من قبل جهات أيديولوجية وتنظيمات متطرفة، تحترف إثارة الرأي العام العربي تحت ذرائع التضامن أو الواجب القومي، لتفرض على دول الخليج أعباء سياسية واقتصادية تتجاوز نطاقها الطبيعي، وتتصل بأزمات دول انهارت بفعل قراراتها وخياراتها الذاتية، وليس بتقاعس الآخرين عنها.
في الواقع لطالما استُخدمت مفاهيم مثل الوحدة، والهمّ العربي المشترك، كأدوات خطابية لجرّ دول الخليج العربي إلى معارك ليست من صُنعه، ولا تتصل بمصالحه العليا، بل تُدار وفق أجندات لا تمتّ للمصلحة العربية بصلة، فحين يُطلب من مجلس التعاون أن يتدخل لإنقاذ اقتصادات متهالكة، أو يُستنهض للتوسط في نزاعات طائفية ضاربة في عمق مجتمعات ممزقة، فإن ما يُراد غالبًا ليس الإنقاذ، بل دفع الفاتورة.
هذه النداءات لا تستند إلى منطق العلاقات الدولية، بل إلى محاولة فرض وصاية أخلاقية على الخليج، باعتباره الطرف المقتدر، الذي يجب عليه دومًا أن يتدخّل ويدفع ويعوض، بينما يحتكر آخرون القرار ويتهربون من أي مساءلة.
في كل ملف إقليمي منهار، تقف قوى محلية – سواء أنظمة أيديولوجية أو تنظيمات مسلحة – متصدّرة للمشهد، تزعم القيادة وترفع الشعارات، لكنها في العمق تُغذّي الانقسام وتمنع الحل، في لبنان، كمثال صارخ، أنفقت دول الخليج العربي لعقود مليارات الدولارات في دعم البنية التحتية والخدمات الأساسية، لتجد نفسها اليوم موضع اتهام بالتقصير، في حين تسيطر على الدولة ميليشيا مذهبية مرتبطة بمشروع خارجي، تمنع الإصلاح وتبتز الداخل والخارج على السواء.
الشيء نفسه يتكرر في غزة، حيث تحوّلت المساعدات الإنسانية إلى غنائم بيد تنظيم إرهابي يحتكر السلطة باسم المقاومة، بينما يتهم الدول الخليجية بالتخاذل، كلما تأخر تحويل مالي أو خفّ صوت الدعم السياسي، وكأنّ المطلوب هو الدعم غير المشروط لقوى لم تنتخبها شعوبها، ولم تُظهر يومًا أي جدية في بناء نموذج حكم قابل للحياة.
والنتيجة معروفة سلفًا، الأموال تُهدر، المشاريع تتوقف، والمواطن البسيط – الذي يفترض أنه المستفيد – لا يرى من هذه المساعدات شيئًا، لأن الفساد السياسي والإداري يبتلعها قبل أن تصل إلى مستحقيها، إنها مسرحية إنقاذ ظاهرها إنساني، وباطنها تثبيت لمصالح شبكات النفوذ المحلية.
كذلك المتابع للوضع يرى أن الابتزاز لا يتوقف عند حدود المطالب المالية أو السياسية، بل يُمارس بشكل ممنهج عبر أدوات إعلامية ونخب فكرية مدفوعة، يتصدر المشهد كتّاب، ومحللون، وخطباء يتهمون الخليج – علنًا أو تلميحًا – بالتقصير، ويُحمّلونه مسؤولية ما آلت إليه دولهم من خراب، وكأن لا وجود لديكتاتوريات، أو ميليشيات، أو مشاريع عابرة للحدود عطّلت التنمية وخنقت الإنسان العربي لعقود.
هذا التوجيه الممنهج للرأي العام يهدف لتشويه النموذج الخليجي، وتحطيم رمزية النجاح والاستقرار، كي لا يبقى في المنطقة مثال قابل للاحتذاء، بل ساحة واحدة يغمرها الفشل والتطرف والفقر، فتسهل السيطرة عليها جميعًا.
لم تكن التنظيمات الإرهابية المتطرفة، ولا الأنظمة الفاسدة، ولا الأحزاب الإيديولوجية العقيمة، سوى وجهٍ واحدٍ لمعادلة الخراب العربي المزمن، جميعها تشترك في مهارة واحدة، الاسترزاق، بل قل إنها احترفت “مهنة التسوّل السياسي” حتى صار التكسب من المآسي نمط وجودها، تتقن هذه الكيانات رفع الشعارات المهترئة، وتكرار الخطاب المعلّب، وممارسة الابتزاز باسم القضية والهوية والمظلومية، وهي في حقيقتها كيانات طفيلية تعيش على ما تجود به العواصم الخليجية، ثم تنقلب عليها حين لا تُلبى شروطها المهينة.
في هذا المشهد البائس، يبقى المواطن العربي هو الضحية، لكنه أيضاً يُستغل كأداة ضغط، يُروّج له أن الخليج متخلٍ، بينما لا تصل إليه أي مساعدات حقيقية، يراهن على التدخل الخليجي لإنقاذ واقعه، لكن من يملكون القرار في بلاده يمنعون عنه أبسط أشكال الكرامة، ثم يُلقون اللوم على من هم خارج الحدود.
من الخطأ أن يُنظر إلى استقرار الخليج كميزة ترفية أو معزولة عن واقع المنطقة، بل هو آخر معاقل الاتزان العربي، إن جاز التعبير، وقد نجح في تحويل ثرواته إلى مشاريع تنموية، لا إلى مغامرات عسكرية أو ثورات دموية، هذا النموذج لا يُعاب عليه أنه لم يتورط في مستنقعات الآخرين، بل يُحمد له أنه تجنّب الانهيار ونجح في البقاء على مسافة آمنة من الانهيار العام.
إن الحفاظ على هذا النموذج، وعدم استنزافه في معارك عبثية، ليس مجرد خيار سيادي، بل مصلحة عربية بحتة، إذ ما من مكسب سيُجنى من تحويل الخليج إلى طرف في كل نزاع، سوى توسيع رقعة الفوضى، وتعطيل آخر رئة تنفس بها المنطقة اقتصاديًا وسياسيًا.
إن الخليج، بحكم موقعه وثقله، لا يمكن عزله عن قضايا المنطقة، لكنه أيضاً ليس صندوق طوارئ دائم يُفتح عند الحاجة ثم يُغلق بإحكام عند القرار، هذه الرؤية الاستهلاكية لدور الخليج يجب أن تنتهي، فالدول لا تُبنى على حساب تدمير أخرى، والمساعدات لا تعني التخلي عن السيادة، والاستقرار لا يجب أن يُستنزف لإرضاء قوى لم تُنتج سوى الفوضى.