لفت نظري مؤخرًا خبر مرفق بصورة مؤلمة: صحافي سوداني معروف يقود عربة يجرها حمار، يبيع الماء في شوارع الخرطوم.
الخبر يقول:
"في خضم تحولات الحرب القاسية في السودان، حاصرت الظروف الصحافي خالد عبدالكريم، الشهير بـ«خالد ماسا»، ولم يجد أمامه مناصًا سوى امتهان بيع الماء على ظهر عربة يجرها حمار… إليكم قصته."
لم يعد خالد عبدالكريم، الصحافي السوداني الشهير، يحمل قلمًا أو كاميرا، بل دلواً وعربة يجرها حمار. هكذا تحولت حياته في غضون أشهر من نقل الأخبار إلى بيع الماء، بعد أن حاصرته الحرب كغيره من ملايين السودانيين.
يقول خالد في حديثه لوسائل إعلام محلية: "كنت أغطي الحرب، فإذا بي أصبح ضحيتها... اليوم، أحمل الماء لأنقذ عائلتي من العطش، بينما بلادي تغرق في دماء لا نهاية لها".
هذه الصورة ليست مجرد مشهد عابر، بل مرآة تعكس الحال الذي آل إليه السودان: دولة تنهشها الحرب، ويعجز فيها المثقفون والمواطنون على حد سواء عن البقاء بكرامة.
ما قبل 2023: جذور الأزمة أعمق من الحرب
لم تأتِ أزمة السودان من فراغ. فقبل عام 2023، عاش السودان تحت وطأة حكم عمر البشير الذي حوّل الدولة إلى ساحة للقمع والفساد، حتى أطاحت به ثورة 2019... لكن الأحلام الديمقراطية تحطمت على صخرة تنافس الجنرالات: البرهان مقابل حميدتي.
يشير تقرير هيومن رايتس ووتش إلى أن "العنف الطائفي والانتهاكات الممنهجة في السودان وصلت إلى مستويات لم تُسجل منذ مذابح دارفور".
وهكذا، فالحقيقة هي أن السودان ظل في حالة صراع دائم لعقود سبقت هذه الحرب. بل إن تاريخ السودان يكشف عن أزمنة دامية:
الحرب الأهلية الأولى (1955–1972)
الحرب الأهلية الثانية (1983–2005)
ثم الانفصال عن جنوب السودان عام 2011، الذي كان من المفترض أن يجلب السلام، لكنه عمّق الانقسامات.
حين يندر العقل في زمن الانهيار
في بلدٍ يُذبح بأيدي أبنائه، يبرز اسم المشير عبد الرحمن سوار الذهب كشاهد على زمنٍ كان التسليم الطوعي للسلطة ممكنًا! ففي عام 1985، وبعد أن قاد انقلابًا عسكريًا ضد النميري، سلّم السلطة طواعية لحكومة مدنية منتخبة، ليكتب تاريخًا نادرًا في الجمهوريات العربية... لكن اليوم، يُذكّرنا السودان بأن "الحمار" في زريبة الحرب قد يكون أكثر حكمة من البشر!
وربما لا يقارن بهذه التجربة سوى ما فعله الرئيس السوري شكري القوتلي، حين تنازل طوعًا عن الرئاسة للرئيس المصري جمال عبد الناصر، بعد قيام الوحدة بين مصر وسوريا عام 1958. وقد لُقّب حينها بـ"المواطن العربي الأول".
أين هذه العقول اليوم؟ وهل من ساسة يتنازلون طوعًا عن الكراسي من أجل الوطن؟
كارثة إنسانية لا تحظى بالاهتمام الكافي
أرقام الأمم المتحدة تصرخ، والعالم يصمّ أذنيه:
26 مليون سوداني يواجهون خطر المجاعة.
34% من الأطفال يعانون من سوء التغذية الحاد.
النزوح الجماعي مستمر، والآلاف يعيشون في خيام مؤقتة، بلا دواء ولا أمان.
القصف والاشتباكات مستمرة في مدن مكتظة بالسكان.
ووسط هذا الجحيم، يتحول أبناء المهنة، والمثقفون، والمهنيون، إلى باعة ماء، وسائقين، ولاجئين... فقط ليستمروا على قيد الحياة.
غزة والسودان: وجهان للجحيم
إذا كنا نعتبر ما تقوم به إسرائيل، دولة الاحتلال، في غزة جحيمًا إنسانيًا متواصلًا منذ قرابة عامين، فإن ما يعيشه السودان اليوم هو جحيم آخر، لكنه أشد إيلامًا من حيث المفارقة:
* ففي غزة، الجحيم مفروض من عدو خارجي.
* أما في السودان، فهو من صنع أيدٍ سودانية خالصة.
* إنه صراع بين أبناء البلد الواحد، يدمر المدن، ويفقر المواطنين، ويحول السودان العظيم إلى دولة تنهار أمام عيون العالم.
خاتمة: هل ننتظر حمير السودان لتنقذ البشر؟!
أعود إلى صورة الصحافي خالد ماسا، الواقف خلف عربته التي يجرها حمار، وأتأمل:
ماذا لو اجتمعت حمير الأرض كلها، وقررت أن تحيل زريبتها إلى حلبة للصراع، يتبادلون فيها النهيق والركل طيلة اليوم؟
ربما لم تكن النتيجة بهذا الحجم من الدمار والانهيار، وربما كان "حمار" خالد عبدالكريم أكثر وعيًا من قادة السودان... فهو لا يقتل أحدًا، ولا يسرق أرزاق الناس، فقط يحاول إنقاذ ما تبقى من إنسانية في بلدٍ حوّله العقل البشري إلى زريبة للقتال!
* ربما آن الأوان لنسأل أنفسنا بصدق: هل نعاني من نقص في الحكمة؟ أم فائض في العناد والأنانية؟
* وهل يعقل أن يصل العقل البشري، بكل ما أوتي من فكر وخيال وإبداع، إلى حال لا يفكر فيه إلا بمنطق الحمار داخل زريبة؟
ما لم نجب، سيبقى السودان نموذجًا مؤلمًا لعالم عربي يتآكل من الداخل... بأيدي أبنائه.