: آخر تحديث
من ثورة الكاسيت إلى إمبراطورية المشانق

إيران: حضارة بددتها العمامات

2
2
2

ظنّ العالم أنَّ سقوط الشاه سيفتح الباب أمام الديمقراطية في إيران، وتوقّع كثيرون أنَّ عمامة الخميني ستُزيل صرامة التاج الحديدي، لتُدشَّن مرحلة جديدة من العدالة والمساواة. لكن مسار التاريخ لم يكن بذلك السخاء، وأثبت الواقع أن ما جرى لم يكن سوى التواء آخر في طريق الوعود، داخليًّا وخارجيًّا. لقد خذل الخميني الداخل قبل أن يخيب آمال الخارج؛ أولئك الذين تداولوا أشرطة الكاسيت أملاً في خلاص قريب، وجدوا أنفسهم أمام واقع ينقلب على ما انتظروه. أما العواصم الأوروبية التي واكبت "ثورة الشعب"، فقد اصطدمت بحقيقة أن النظام الجديد سرعان ما استبدل وسائل التعبير بأدوات الرقابة، وحوّل المنابر إلى وسائل للترهيب.

ذلك التحوّل لم يكن مجرد انحراف طارئ، بل نهجٌ سرعان ما تكشّف بعد انتصار "الثورة الإسلامية" في 11 شباط (فبراير) 1979. فحين سقطت أصنام الشاه، أُعيد تشكيلها في صورة جديدة تحكمها الأدلجة والوصاية الدينية، تُخضع الأجساد والعقول باسم الثورة. وإن كل  من خرجوا إلى الشوارع، منخرطين فيما سميت: "ثورة الخميني"، مدفوعين بأمل في عهدٍ من الحرية وجدوا أنفسهم في سجون مغلقة، أو أمام محاكم لا ترحم، أو في ساحات الإذلال العلني، أو الإعدام!

لم تكن الشعوب غير الفارسية في إيران استثناءً من هذا المصير. في عمق هذا المشهد تبرز مأساة الأحوازيين، الذين حُرموا من لغتهم وأرضهم وثرواتهم، وصاروا في وطنهم كأنهم غرباء. موارد الأحواز النفطية تُغذّي آلة القمع، بينما يعيش السكان الأصليون على هامش اقتصاد وطنهم. كما أن البلوش في سيستان يواجهون واقعًا مشابهًا: لا تعليم بلغتهم، ولا فرص عادلة للعمل، ولا لحظة أمان من مداهمات مستمرة. التركمان والأذريون يُسلبون حقهم في التعبير الثقافي، ويُضيّق عليهم حتى في إقامة فعالياتهم التراثية. أما الكرد، فيُحاصرهم الحرمان اللغوي، وتُلاحق نخبتهم الثقافية، وتُستهدف قراهم تحت ذرائع أمنية.

وليس الأمر بجديد في سجل العلاقة بين الدولة المركزية وهذه الشعوب. ففي 22 كانون الثاني (يناير) 1946، في مدينة مهاباد الكردستانية، أُعلن عن قيام جمهورية مهاباد الديمقراطية الكردية، برئاسة القاضي محمد، محاولةً لصياغة شكل عادل من الحكم الذاتي ضمن حدود إيران. غير أن الضغوط الإقليمية والدولية، وعودة القوات الإيرانية، أدت إلى إسقاط الجمهورية في 16 كانون الأول (ديسمبر) 1946، بعد أقل من عام على قيامها. أُعدم القاضي محمد في 31 آذار (مارس) 1947، ليُطوى فصل طموح لم يُكتب له الاكتمال.

رغم هذا كلّه، فإنه لا شماتة البتة. إذ إن كل ألم يُصيب إنسانًا هو جرح في جسد الإنسانية جمعاء. لكن صمت العالم عن هذه الانتهاكات المستمرة، في عصر تتسارع فيه قدرة البشر على رؤية الحقائق، لم يعد مقبولًا. الزمن يتغير، وخرائط الاستبداد تهتز، والمناطق المعتمة باتت عرضة لانكشاف واسع. حيث كلنا يعلم أن النظام الإيراني لم يكتف بإحكام قبضته في الداخل. فقد شرع، منذ سنواته الأولى، في تصدير مشروعه خارج الحدود، تحت شعارات نصرة المستضعفين، التي ما لبثت أن تحوّلت إلى مداخل لنقل أدوات السيطرة إلى ساحات أخرى.

ورأى العالم كله كيف أن النفوذ الإيراني، قد لعب في العراق دورًا في تعميق الانقسامات.  أما وفي سوريا، فقد كان دعم النظام جزءًا من معركة ميدانية دامية مستنزفة طويلة أنهكت المجتمع السوري. إذ جرى تسويغ العنف ضد المدنيين، تحت ذرائع دينية كاذبة، في مشهد من العبث السياسي.

كما ساهمت الأذرعة الموالية لطهران في لبنان، في إقامة واقع سياسي وأمني خارج الإطار الدستوري، بينما  غذى  هذا النظام صراعاً  دموياً في اليمن، أطاح بأحلام بلدٍ كان يطلب العيش الكريم. أما منطقة الخليج، فظلت عالقة في دوامة قلق مستمر، بفعل سياسات التدخل المستترة والمعلنة.

حتى خارج حدود إيران الجغرافية المصطنعة المكونة من خرائط شعوب مجاورة، لم تتوقف أنشطة القمع والاغتيال. ففي 13 تموز (يوليو) 1989، اغتيل عبد الرحمن قاسملو- زعيم الحزب الديمقراطي الكردستاني الإيراني-  خلال مفاوضات سرية في فيينا. وفي 17 أيلول (سبتمبر) 1992، تعرّض صادق شرفكندي، خليفته في قيادة الحزب، للاغتيال في مطعم ميكونوس في برلين، في عملية أدانها القضاء الألماني لاحقًا بوصفها جريمة تحمل بصمة مباشرة من أجهزة الدولة الإيرانية.

على هذا المسار، برز دور قاسم سليماني، الذي تجاوز كونه قائدًا عسكريًا. لقد حمل مشروعًا لإعادة تشكيل مشهد إقليمي بما يخدم الرؤية الإيرانية. من العراق إلى سوريا إلى جبال كردستان، تركت تحركاته آثارًا موجعة، ساهمت في وأد آمال عريضة حملتها شعوب المنطقة.

 ولم يكن خافياً على أحد أن ما عُرف بمشروع "الهلال الشيعي"  قد جسد محاولة لرسم خريطة نفوذ عابرة للحدود، تقوم على استثمار الأزمات واستغلال فراغات السلطة. لكن كما هي الحال مع كل مشاريع تُبنى على القهر والانقسام، تظل عُرضة للارتداد والانهيار. أجل، ثمة ما لم تعرفه إيران- بعكس تركيا التي تريد الانحناء للعاصفة ولو مؤقتاً دون خسارة ماء الوجه - وهو أن العالم اليوم يتغير. أدوات الوعي الجماعي باتت قادرة على تقويض أدوات الهيمنة التقليدية. الشعوب تعيد النظر في اصطفافاتها، وتسعى إلى إعادة تعريف هويتها بأدواتها الخاصة. والمنطقة، التي طالما أُريد لها أن تدار من عواصم خارجية، بدأت تستعيد ببطء زمام المبادرة.

قد تكون نهاية المسار الإيراني القائم مقدمة لمرحلة مختلفة. مرحلة تُكتب فيها خرائط جديدة بأدوات السلم والعدالة، لا بفوهات البنادق. إنها رسالة إلى طغاة الشرق الأوسط، بمختلف هوياتهم ولغاتهم وأشكال هيمناتهم!


عدد التعليقات 0
جميع التعليقات المنشورة تعبر عن رأي كتّابها ولا تعبر بالضرورة عن رأي إيلاف
لم يتم العثور على نتائج


شروط النشر: عدم الإساءة للكاتب أو للأشخاص أو للمقدسات أو مهاجمة الأديان أو الذات الالهية. والابتعاد عن التحريض الطائفي والعنصري والشتائم.